إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (
يقول الله تعالى مخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقاء الله شيئا، ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها أنفسهم.
قال الحسن: والله ما زينوها ولا رفعوها، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها، بأن مأواهم يوم معادهم النار، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
وهذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وامتثلوا ما أمروا، به فعملوا الصالحات، بأنه سيهديهم بإيمانهم.
يحتمل أن تكون "الباء" هاهنا سببية فتقديره: بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة "< 4-250 >" على الصراط، حتى يجوزوه ويخلصُوا إلى الجنة. ويحتمل أن تكون للاستعانة، كما قال مجاهد في قوله: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) قال: [يكون لهم نورا يمشون به] .
وقال ابن جُرَيْج في [قوله: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) قال] : يمثُل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك. فيجعل له نورا. من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله تعالى: ( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ) والكافر يَمْثُلُ له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلازم صاحبه ويلازُّه حتى يقذفه في النار.
وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم.
وقوله: ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي: هذا حال أهل الجنة.
قال ابن جريج: أخبرتُ أن قوله: ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) [قال: إذا مر بهم الطير يشتهونه، قالوا: سبحانك اللهم] وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه، فيسلم عليهم، فيردون عليه. فذلك قوله: ( وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله: ( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
وقال مقاتل بن حيان: إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم: ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) قال: فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم، مع كل خادم صحفة من ذهب، فيها طعام ليس في الأخرى، قال: فيأكل منهن كلهن.
وقال سفيان الثوري: إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال: ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ )
وهذه الآية فيها شبه من قوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [ الأحزاب : 44 ]، وقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا [ الواقعة: 25 ، 26 ]. وقوله: سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [ يس: 58 ]. وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ الرعد : 23 ، 24 ].
وقوله: ( وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هذا فيه دلالة على أن الله تعالى هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه، وعند ابتداء تنـزيله، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [ الكهف : 1 ]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [ الأنعام: 1 ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه "< 4-251 >" المحمود في الأول و[في] الآخر، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، في جميع الأحوال؛ ولهذا جاء في الحديث: "إن أهل الجنة يُلْهَمُونَ التسبيح والتحميد كما يُلْهَمُونَ النَّفَس" وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله عليهم، فتكرّر وتعاد وتزاد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده: أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم -والحالة هذه -لطفا ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم وأولادهم بالخير والبركة والنماء؛ ولهذا قال: ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) أي: لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك، لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حَزْرَة عن عبادة بن الوليد، حدثنا جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم،لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم".
ورواه أبو داود، من حديث حاتم بن إسماعيل، به .
وقال البزار: [و] تفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، لم يشاركه أحد فيه، وهذا كقوله تعالى: وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [ الإسراء: 11 ].
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ ) هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: "اللهم لا تبارك فيه والعنه". فلو يعجل لهم الاستجابة في "< 4-252 >" ذلك، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر، كقوله: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [ فصلت: 51 ] أي: كثير، وهما في معنى واحد؛ وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها، وأكثر الدعاء عند ذلك، فدعا الله في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه، وفي جميع أحواله، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء، ( مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ )
ثم ذم تعالى مَنْ هذه صفته وطريقته فقال: ( كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد، فإنه مستثنى من ذلك، كما قال تعالى: إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ هود: 11 ]، وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له"، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
أخبر تعالى عما أحلّ بالقرون الماضية، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات، ثم استخلف الله هؤلاء القومَ من بعدهم، وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له، واتباعهم رسوله، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" .
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد حدثنا حماد، عن ثابت "< 4-253 >" البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ أن عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيت فيما يرى النائم كأن سَبَبًا دُلِّي من السماء، فانتُشط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعيد، فانتُشط أبو بكر، ثم ذُرعَ الناس حول المنبر، ففضل عمر بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر: دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها! فلما استخلف عمر قال: يا عوف، رؤياك! فقال: وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أولم تنتهرني ؟ فقال: ويحك! إني: كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ: "ذُرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع"، قال: أما إحداهن فإنه كائن خليفة. وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة فإنه شهيد. قال: فقال: يقول الله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) فقد استُخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل؟ وأما قوله: "فإني لا أخاف في الله لومة لائم"، فما شاء الله! وأما قوله: [إني] شهيد فَأَنَّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به .