وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (
يقول تعالى مخبرا عن موسى، حين ذَكَّر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون، وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال، حين كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم، ويتركون إناثهم فأنقذ الله بني إسرائيل من ذلك، وهذه نعمة عظيمة؛ ولهذا قال: وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي: نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك، أنتم عاجزون عن القيام بشكرها.
وقيل: وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل ( بلاء ) أي: اختبار عظيم. ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا، والله أعلم، كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168].
وقوله: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) أي: آذنكم وأعلمكم بوعده لكم. ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه كما قال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ] [الأعراف: 167].
وقوله ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ ) أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، ( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ) أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، ( إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) وذلك بسلبها عنهم، وعقابه إياهم على كفرها.
وقد جاء في الحديث: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" .
وفي المسند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ به سائل فأعطاه تمرة، فَتَسَخَّطها ولم يقبلها، ثم مر به آخر فأعطاه إياها، فقبلها وقال: تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له بأربعين درهما، أو كما قال.
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا عمارة الصَّيدلاني، عن ثابت، عن أنس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها -أو: وحش بها -قال: وأتاه آخر فأمر له بتمرة، فقال: سبحان الله! تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال للجارية: "اذهبي إلى أم سلمة، فأعطيه الأربعين درهما التي عندها".
تفرد به الإمام أحمد .
وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبَّان، وأحمد، ويعقوب بن سفيان وقال ابن معين: صالح. وقال أبو زُرْعَة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالمتين. وقال البخاري: ربما يضطرب في حديثه. وعن أحمد أيضا أنه قال: روي عنه أحاديث منكرة. وقال أبو داود: ليس بذاك. وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي: لا بأس به ممن يكتب حديثه.
وقوله تعالى: ( وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) أي: هو غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود، وإن كفره من كفره، كما قال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] وقال تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن: 6].
وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، إلا كما ينقُص المخْيَط إذا أدخل في البحر". فسبحانه وتعالى الغني الحميد .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قال ابن جرير: هذا من تمام قيل موسى لقومه .
يعني: وتذكاره إياهم بأيام الله، بانتقامه من الأمم المكذبة للرسل.
وفيما قال ابن جرير نظر؛ والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة، فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقَصَه عليهم ذلك فلا شك أن تكون هاتان القصتان في "التوراة"، والله أعلم. وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل، مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل أتتهم رسلهم بالبينات، أي: بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات.
وقال ابن إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله أنه قال في قوله: ( لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ ) كذب النسابون.
وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان.
وقوله: ( فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) اختلف المفسرون في معناه، فقيل: معناه: أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم، لما دعوهم إلى الله، عز وجل.
وقيل: بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبًا لهم.
وقيل: بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل.
وقال مجاهد، ومحمد بن كعب، وقتادة: معناه: أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم.
قال ابن جرير: وتوجيهه أن "في" ها هنا بمعنى "الباء"، قال: وقد سمع من العرب: "أدخلك الله بالجنة" يعنون: في الجنة، وقال الشاعر:
وَأَرْغَـبُ فِيهَـا عَـن لَقيـطٍ ورهْطـه
عَــن سِــنْبس لَسْــتُ أرْغَــب
يريد: أرغب بها .
قلت: ويؤيد قول مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام: ( وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) فكأن هذا [والله أعلم] تفسير لمعنى رَدِّ أيديهم في أفواههم.
وقال سفيان الثوري، وإسرائيل، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: ( فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) قال: عضوا عليها غيظا.
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن هُبَيرَْة ابن مريم، عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا. وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ووجهه ابن جرير مختارًا له، بقوله تعالى عن المنافقين: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: 119].
وقال العوفي، عن ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عَجبوا، ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
وقالوا: ( إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) يقولون: لا نصدقكم فيما جئتم به؛ فإن عندنا فيه شكا قويا.
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له، قالت الرسل: ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ )
وهذا يحتمل شيئين، أحدهما: أفي وجوده شك، فإن الفطر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطَر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده؛ ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) الذي خلقها وابتدعها على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو، خالق كل شيء وإلهه ومليكه.
والمعنى الثاني في قولهم: ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ) أي: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو، وحده لا شريك له؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى.
وقالت لهم الرسل: ندعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم، أي: في الدار الآخرة، ( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي: في الدنيا، كما قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ الآية [هود: 3]، فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة، بعد تقدير تسليمهم للمقام الأول، وحاصل ما قالوه: ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) أي: كيف نتبعكم بمجرد قولكم، ولما نر منكم معجزة؟ ( فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) أي: خارق نقترحه عليكم.