مملكة الياسر العظمة لعلوم الفلك والروحانيات Astronomy and Spirituality treat all kinds of magic
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مملكة الياسر العظمة لعلوم الفلك والروحانيات Astronomy and Spirituality treat all kinds of magic


الرئيسيةalyasserأحدث الصورالتسجيلدخول
مرحبا بك يازائر فى مملكة الياسر العظمة لعلوم الفلك والروحانيات والعلاج بالقران والاعشاب نقوم بادن الله بعلاج جميع انواع السحر السحر العلوى والسحر السفلى المحروق والمرشوش والمدفون والماكول والمشروب وسحر التخيل وسحر الجنون وسحر الهواتف والرقية الشرعية دكتورة فى علوم الفلك والروحانيات للتواصل معنا والاستعلام على الايميل Sakr11111@yahoo.com

 

 تفسير ابن كثير للقران

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:41 am

بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة الكتاب


يقال لها: الفاتحة، أي فاتحة الكتاب خطا، وبها تفتح القراءة في الصلاة ويقال لها أيضا: أم الكتاب عند الجمهور، وكره أنس، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك، قال الحسن وابن سيرين: إنما ذلك اللوح المحفوظ، وقال الحسن :الآيات المحكمات :هن أم الكتاب، ولذا كرها -أيضا -أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في[الحديث] الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم " ويقال لها: الحمد، ويقال لها:الصلاة، لقوله عليه السلام عن ربه: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قال الله: حمدني عبدي " الحديث. فسميت الفاتحة: صلاة؛ لأنها شرط فيها. ويقال لها: الشفاء؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا: " فاتحة الكتاب شفاء من كل سم " . ويقال لها:الرقية؛ لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك أنها رقية؟ " . وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها: أساس القرآن، قال: فأساسها بسم الله الرحمن الرحيم، وسماها سفيان بن عيينة: الواقية. وسماها يحيى بن أبي كثير: الكافية؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها، كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة: " أم القرآن عوض من غيرها، وليس غيرها عوضا عنها " . ويقال لها: سورة الصلاة والكنـز ذكرهما الزمخشري في كشافه. وهي مكية، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية، وقيل مدنية، قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري. ويقال: نـزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة، والأول أشبه لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر: 87]، والله أعلم . وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نـزل بمكة ونصفها الآخر نـزل بالمدينة، وهو غريب جدًا، نقله القرطبي عنه. وهي سبع آيات بلا خلاف، [وقال عمرو بن عبيد: ثمان، وقال حسين الجعفي: ستة وهذان شاذان] . وإنما اختلفوا في البسملة: هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول الجماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف، أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية، كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء؟ على ثلاثة أقوال، سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.

قالوا: وكلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفًا. قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أم الكتب، أنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر -إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع -أُمًّا، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ، أمّ الرأس، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أُمًّا، واستشهد بقول ذي الرمة:

علـى رأسـه أم لنا نقتـدي بها

جمـاع أمـور ليس نعصي لهـا أمرا


يعني: الرمح. قال: وسميت مكة: أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها، وقيل: لأن الأرض دحيت منها.

ويقال لها أيضًا: الفاتحة؛ لأنها تفتتح بها القراءة، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام، وصح تسميتها بالسبع المثاني، قالوا: لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة، وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله .قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم القرآن: " هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم " . ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به، وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني " .وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا محمد بن غالب بن حارث، ثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي، ثنا المعافى بن عمران، عن عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب " .

وقد رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله، وقال: كلهم ثقات .وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر: 87] بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها، وسيأتي تمام هذا عند البسملة.

وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لِمَ لَمْ تكتب الفاتحة في مصحفك؟ قال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة. قال أبو بكر بن أبي داود: يعني حيث يقرأ في الصلاة، قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها.

وقد قيل : إن الفاتحة أول شيء نـزل من القرآن، كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة هذا [أحدها] وقيل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كما في حديث جابر في الصحيح . وقيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] وهذا هو الصحيح، كما سيأتي تقريره في موضعه، والله المستعان.

ذكر ما ورد في فضل الفاتحة

قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، رحمه الله، في مسنده: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المُعَلَّى، رضي الله عنه، قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه حتى صلَّيت وأتيته، فقال: " ما منعك أن تأتيني؟ " . قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. قال: " ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ثم قال: " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد " . قال: فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت: " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن " . قال: " نعم، الحمد لله رب العالمين هي: السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " .

وهكذا رواه البخاري عن مسدد، وعلي بن المديني، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان، به .ورواه في موضع آخر من التفسير، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طرق عن شعبة، به .ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاريّ، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المُعَلَّى، عن أبي بن كعب، فذكر نحوه.

وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس، ما ينبغي التنبيه عليه، فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي: أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبرهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب، وهو يصلي في المسجد، فلما فرغ من صلاته لحقه، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي، وهو يريد أن يخرج من باب المسجد، ثم قال: " إني لأرجو ألا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنـزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " . قال أبيّ: فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك، ثم قلت: يا رسول الله، ما السورة التي وعدتني؟ قال: " كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأت عليه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حتى أتيت على آخرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي هذه السورة، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت " .فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المُعَلّى، كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه ، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري، وهذا تابعي من موالي خزاعة، وذاك الحديث متصل صحيح، وهذا ظاهره أنه منقطع، إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبيّ بن كعب، فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم، والله أعلم. على أنه قد روي عن أبيّ بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد:

حدثنا عفَّان، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب، وهو يصلي، فقال: " يا أبي " ، فالتفت ثم لم يجبه، ثم قال: أبي، فخفف. ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك أيْ رسول الله. قال: " وعليك السلام " [قال] " ما منعك أيْ أبيّ إذ دعوتك أن تجيبني؟ " . قال: أيْ رسول الله، كنت في الصلاة، قال: " أولست تجد فيما أوحى الله إلي اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] " . قال: بلى يا رسول الله، لا أعود، قال: " أتحب أن أعلمك سورة لم ينـزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ " قلت: نعم، أي رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأرجو ألا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها " قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني، وأنا أتبطأ ، مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما دنونا من الباب قلت: أيْ رسول الله، ما السورة التي وعدتني قال: " ما تقرأ في الصلاة؟ " . قال: فقرأت عليه أم القرآن، قال: " والذي نفسي بيده ما أنـزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها؛ إنها السبع المثاني " . ورواه الترمذي، عن قتيبة، عن الدَّرَاوَرْدِي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكره ، وعنده: إنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.

وفي الباب، عن أنس بن مالك، ورواه عبد الله بن [الإمام] أحمد، عن إسماعيل بن أبي مَعْمَر، عن أبي أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب، فذكره مطولا بنحوه، أو قريبا منه .وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن أبي عمار حسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن عبد الحميد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنـزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي "، هذا لفظ النسائي. وقال الترمذي: حسن غريب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا هاشم، يعني ابن البريد حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن جابر، قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يرد عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يرد عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليّ. قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا خلفه حتى دخل رحله، ودخلت أنا المسجد، فجلست كئيبًا حزينًا، فخرج عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر، فقال: " عليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله " ثم قال: " ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأَخْير سورة في القرآن؟ " قلت: بلى يا رسول الله. قال: " اقرأ: الحمد لله رب العالمين، حتى تختمها " .هذا إسناد جيد، وابن عقيل تحتج به الأئمة الكبار، وعبد الله بن جابر هذا هو الصحابي، ذكر ابن الجوزي أنه هو العبديّ، والله أعلم. ويقال: إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي، فيما ذكره الحافظ ابن عساكر .واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض، كما هو المحكي عن كثير من العلماء، منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربي، وابن الحصار من المالكية. وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك؛ لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، وإن كان الجميع فاضلا نقله القُرطُبي عن الأشعريّ، وأبي بكر الباقلاني، وأبي حاتم بن حبان البستي، ويحيى بن يحيى، ورواية عن الإمام مالك [أيضا] .

حديث آخر : قال البخاري في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا وهب، حدثنا هشام، عن محمد، بن معبد، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا في مسير لنا، فنـزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نَفَرَنَا غُيَّب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نَأبِنُه برقية، فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقي؟ قال: لا ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " وما كان يُدْريه أنها رقية، اقسموا واضربوا لي بسهم " .

وقال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث، حدثنا هشام، حدثنا محمد بن سيرين، حدثني معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري بهذا.

وهكذا رواه مسلم، وأبو داود من رواية هشام، وهو ابن حسان، عن ابن سيرين، به . وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث: أن أبا سعيد هو الذي رقى ذلك السليم، يعني: اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلا.

حديث آخر : روى مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم، عن عمار بن رُزَيق، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء، ما فتح قط. قال: فنـزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، ولن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته. وهذا لفظ النسائي.

ولمسلم نحوه حديث آخر : قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، هو ابن راهويه، حدثنا سفيان بن عيينة، عن العلاء، يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحُرَقي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خِداج -ثلاثًا-غير تمام " . فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام، قال: اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 3]، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4]، قال مجدني عبدي -وقال مرة: فوض إلي عبدي -فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6، 7]، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .

وهكذا رواه النسائي، عن إسحاق بن راهويه . وقد روياه -أيضًا-عن قتيبة، عن مالك، عن العلاء، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، به وفي هذا السياق: " فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل " .

وكذا رواه ابن إسحاق، عن العلاء، وقد رواه مسلم من حديث ابن جُرَيْج، عن العلاء، عن أبي السائب هكذا .

ورواه -أيضًا-من حديث ابن أبي أويس، عن العلاء، عن أبيه وأبي السائب، كلاهما عن أبي هريرة .

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وسألت أبا زُرْعَة عنه فقال: كلا الحديثين صحيح، من قال: عن العلاء، عن أبيه، وعن العلاء عن أبي السائب .

وقد روى هذا الحديث عبد الله ابن الإمام أحمد، من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبيّ بن كعب مطولا .

قال ابن جرير: حدثنا صالح بن مسمار المروزي، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عَنْبسة بن سعيد، عن مُطَرَّف بن طريف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، وله ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال: أثنى علي عبدي. ثم قال: هذا لي وله ما بقي "

وهذا غريب من هذا الوجه.

ثم الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه:

أحدها : أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة، والمراد القراءة كقوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا [الإسراء: 110]، أي: بقراءتك كما جاء مصرحًا به في الصحيح، عن ابن عباس وهكذا قال في هذا الحديث: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل " ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظم القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها، إذ أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو القراءة؛ كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78]، والمراد صلاة الفجر، كما جاء مصرحا به في الصحيحين: من أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فدل هذا كله على أنه لا بد من القراءة في الصلاة، وهو اتفاق من العلماء.

ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني، وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب، أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين، فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة، واحتجوا بعموم قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]، وبما ثبت في الصحيحين، من حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " قالوا: فأمره بقراءة ما تيسر، ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلناه.

والقول الثاني : أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء؛ واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاج " والخداج هو: الناقص كما فسَّر به في الحديث: " غير تمام " . واحتجوا -أيضًا-بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهريّ، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصّامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " . وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك، رحمهم الله.

ثم إن مذهب الشافعيّ وجماعة من أهل العلم: أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات، وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات، أخذا بمطلق الحديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " .

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه لقوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]، [كما تقدم] والله أعلم.

وقد روى ابن ماجه من حديث أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مرفوعًا: " لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها " . وفي صحة هذا نظر، وموضح تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير، والله أعلم.

الوجه الثالث : هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء:

أحدها : أنه تجب عليه قراءتها، كما تجب على إمامه؛ لعموم الأحاديث المتقدمة.

والثاني : لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها، لا في الصلاة الجهرية ولا السرية، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " ولكن في إسناده ضعف . ورواه مالك، عن وهب بن كَيْسَان، عن جابر من كلامه . وقد روي هذا الحديث من طرق، ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

والقول الثالث : أنه تجب القراءة على المأموم في السرية، لما تقدم، ولا تجب في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبَّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا " وذكر بقية الحديث .

وهكذا رواه أهل السنن؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وإذا قرأ فأنصتوا " . وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضا، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي، رحمه الله، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل .

والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، حدثنا غسان بن عبيد، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وضعت جنبك على الفراش، وقرأت فاتحة الكتاب و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقد أمنت من كل شيء إلا الموت "

الكلام على تفسير الاستعاذة
قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 199، 200]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 96 -98] وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34 -36].


فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، وهو أن الله يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه، ليرده عنه طبعُهُ الطَّيب الأصل إلى الموادة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل؛ كما قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: 27] وقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] وقال أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [الكهف: 50]، وقد أقسم للوالد آدم إنه لمن الناصحين، وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال: فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83]، وقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 98، 99]

قالت طائفة من القراء وغيرهم: نتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية، ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة؛ وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيما ذكره ابن قلوقا عنه، وأبو حاتم السجستاني، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جُبارة الهذلي المغربي في كتابه " الكامل " .

وروي عن أبي هريرة -أيضا-وهو غريب.

[ونقله فخر الدين محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال: وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري، وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي عن المجموعة عن مالك، رحمه الله تعالى، أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة، واستغربه ابن العربي. وحكي قول ثالث وهو الاستعاذة أولا وآخرا جمعا بين الدليلين نقله فخر الدين ] .

والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة لدفع الوسواس فيها، إنما تكون قبل التلاوة، ومعنى الآية عندهم: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة كقوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ الآية [المائدة: 6] أي: إذا أردتم القيام. والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:

حدثنا محمد بن الحسن بن آتش حدثنا جعفر بن سليمان، عن علي بن علي الرفاعي اليشكري، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبَّر قال: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " . ويقول: " لا إله إلا الله " ثلاثًا، ثم يقول: " أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من هَمْزه ونَفْخِه ونَفْثه " .

وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان، عن علي بن علي، وهو الرّفاعي ، وقال الترمذي: هو أشهر حديث في هذا الباب. وقد فسَر الهمز بالموتة وهي الخنق، والنَّفخ بالكبر، والنفث بالشعر. كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن عاصم العَنـزيّ، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة، قال: " الله أكبر كبيرًا، ثلاثًا، الحمد لله كثيرا، ثلاثًا، سبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من هَمْزه ونَفْخه ونفْثه " .

قال عمرو: وهمزه الموتة، ونفخه الكبر، ونفثه الشعر .

وقال ابن ماجه: حدثنا علي بن المنذر، حدثنا ابن فُضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهَمْزه ونفخه ونفثه " .

قال: همزه: الموتة، ونَفْثُه: الشعر، ونفخه: الكِبْر .

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك، عن يعلى بن عطاء، عن رجل حدثه: أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبَّر ثلاثًا، ثم قال: " لا إله إلا الله " ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده "، ثلاث مرات. ثم قال: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه .وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي، حدثنا علي بن هاشم بن البريد عن يزيد بن زياد، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فَتَمزّع أنف أحدهما غضبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم شيئا لو قاله ذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .

وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة، عن يوسف بن عيسى المروزي، عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، به .

وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل، عن أبي سعيد، عن زائدة، وأبو داود عن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، والترمذي، والنسائي في اليوم والليلة عن بُنْدَار، عن ابن مهدي، عن الثوري، والنسائي -أيضًا-من حديث زائدة بن قدامة، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: استَب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما غضبًا شديدًا حتى خُيّل إليّ أن أحدهما يَتَمزّع أنفه من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب " قال: ما هي يا رسول الله؟ قال: " يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم " . قال: فجعل معاذ يأمره، فأبى [ومحك] ، وجعل يزداد غضبًا. وهذا لفظ أبي داود .وقال الترمذي: مرسل، يعني أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل، فإنه مات قبل سنة عشرين.

قلت: وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبيّ بن كعب، كما تقدم وبلغه عن معاذ بن جبل، فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة، رضي الله عنهم. قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، قال: قال سليمان بن صُرَد: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضَبًا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لست بمجنون .

وقد رواه -أيضًا-مع مسلم، وأبي داود، والنسائي، من طرق متعددة، عن الأعمش، به .

وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا، وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال، والله أعلم. وقد رُوِيَ أن جبريل عليه السلام، أوّل ما نـزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير:

حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أول ما نـزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، استعذ. قال: " أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم " ثم قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ قال عبد الله: وهي أول سورة أنـزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان جبريل .وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا، والله أعلم.

مسألة : وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها، وحكى فخر الدين عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب، واحتج فخر الدين لعطاء بظاهر الآية: فَاسْتَعِذْ وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ولأنها تدرأ شر الشيطان وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب. وقال بعضهم: كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ لقيام شهر رمضان في أول ليلة منه.

مسألة : وقال الشافعي في الإملاء، يجهر بالتعوذ، وإن أسر فلا يضر، وقال في الأم بالتخيير لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة، واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى: هل يستحب التعوذ فيها؟ على قولين، ورجح عدم الاستحباب، والله أعلم. فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وزاد بعضهم: أعوذ بالله السميع العليم، وقال آخرون: بل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، قاله الثوري والأوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور ،والأحاديث الصحيحة، كما تقدم، أولى بالاتباع من هذا، والله أعلم.

مسألة: ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: بل للصلاة، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوذ في العيد بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد، والجمهور بعدها قبل القراءة.

ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له وتهيؤ لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات القرآن في ثلاث من المثاني، وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا [الإسراء: 65]، وقد نـزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر، ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا، ومن قتله العدو الباطني كان طرِيدًا، ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا، ومن قهره العدو الباطن كان مفتونا أو موزورًا، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان.

فصل:
والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي:


يـا من ألـوذ بـه فيمـا أؤمـله

ومـن أعـوذ بـه ممن أحـاذره

لا يجبر النـاس عظما أنت كاسره

ولا يهيضـون عظما أنت جابره


فصل معنى الاستعاذة

ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه؛ فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عمَّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]، فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]، وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون " : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ, , ر, , , َبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 96 -98]، وقال تعالى في سورة " حم السجدة " : وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34 -36].

والشيطان في لغة العرب مشتق من شَطَن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار، ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب؛ قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان، عليه السلام:

أيمـا شـاطِنٍ عصـاه عكـاه

ثمّ يُلْـقى في السِّـجْـن والأغـلال


فقال: أيما شاطن، ولم يقل: أيما شائط.

وقال النابغة الذبياني -وهو: زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذُبْيان-:

نـأت بسعـاد عنـك نَـوًى شَطُونُ

فبـانت والفـؤادُ بهــا رَهِينُ


يقول: بعدت بها طريق بعيدة.

[وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان إذا فَعَل فِعْل الشيطان ولو كان من شاط لقالوا: تشيط] .والشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل ما تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانًا، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112]. وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر، تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن "، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: " نعم " .وفي صحيح مسلم عن أبي ذر -أيضًا-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود " . فقلت: يا رسول الله، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر فقال: " الكلب الأسود شيطان " .وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ركب برْذونًا، فجعل يتبخْتر به، فجعل لا يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا، فنـزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، ما نـزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده صحيح .

والرّجيم: فعيل بمعنى مفعول، أي: أنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك: 5]، وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 6 -10]، وقال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16 -18]، إلى غير ذلك من الآيات.

[وقيل: رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوسواس والربائث والأول أشهر] .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) .

افتتح بها الصحابةُ كتاب الله، واتّفق العلماء على أنها بعض آية من سورَة النمل، ثمّ اختلفوا: هل هي آية مستقلة في أوّل كل سورة، أو من أول كل سورة كتبت في أوّلها، أو أنها بعض آية من أوّل كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها [إنما] كتبت للفصل، لا أنها آية؟ على أقوال للعلماء سلفًا وخلفًا، وذلك مبسوط في غير هذا الموضع.

وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينـزل عليه ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضًا ، وروي مرسلا عن سعيد بن جُبَير. وفي صحيح ابن خزيمة، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدّها آية، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي، وفيه ضعف، عن ابن جُرَيْج، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عنها .وروى له الدارقطني متابعًا، عن أبي هريرة مرفوعًا . وروى مثله عن علي وابن عباس وغيرهما .وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة: ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو هريرة، وعليّ. ومن التابعين: عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومكحول، والزهري، وبه يقول عبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، في رواية عنه، وإسحاق بن رَاهوَيه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، رحمهم الله. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقال الشافعي في قول، في بعض طرق مذهبه: هي آية من الفاتحة وليست من غيرها، وعنه أنها بعض آية من أول كل سورة، وهما غريبان.

وقال داود: هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل. وحكاه أبو بكر الرازي، عن أبي الحسن الكرخي، وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة، رحمهم الله .هذا ما يتعلق بكونها من الفاتحة أم لا. فأمَّا ما يتعلق بالجهر بها، فمفرّع على هذا؛ فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال: إنها آية من أوّلها، وأمَّا من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا؛ فذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفًا وخلفًا ، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وحكاه ابن عبد البر، والبيهقي عن عمر وعليّ، ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، وهو غريب. ومن التابعين عن سعيد بن جبير، وعِكْرِمة، وأبي قِلابة، والزهري، وعليّ بن الحسين، وابنه محمد، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وسالم، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبي وائل، وابن سيرين، ومحمد بن المنْكَدِر، وعلي بن عبد الله بن عباس، وابنه محمد، ونافع مولى ابن عمر، وزيد بن أسلم، وعمر بن عبد العزيز، والأزرق بن قيس، وحبيب بن أبي ثابت، وأبي الشعثاء، ومكحول، وعبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن. زاد البيهقيّ: وعبد الله بن صفوان، ومحمد بن الحنفية. زاد ابن عبد البر: وعمرو بن دينار.

والحُجَّة في ذلك أنها بعض الفاتحة، فيجهر بها كسائر أبعاضها، وأيضًا فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم .

وروى أبو داود والترمذي، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال الترمذي: وليس إسناده بذاك .

وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: صحيح وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مدا، ثم قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم .

وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم، عن أم سلمة، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. وقال الدارقطني: إسناده صحيح .

وروى الشافعي، رحمه الله، والحاكم في مستدركه، عن أنس: أن معاوية صلى بالمدينة، فترك البسملة، فأنكر عليه من حضر من المهاجرين ذلك، فلما صلى المرّة الثانية بسمل .

وفي هذه الأحاديث، والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها، فأما المعارضات والروايات الغريبة، وتطريقها، وتعليلها وتضعيفها، وتقريرها، فله موضع آخر.

وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل، وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري، وأحمد بن حنبل.

وعند الإمام مالك: أنه لا يقرأ البسملة بالكلية، لا جهرًا ولا سرًا، واحتجوا بما في صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين . وبما في الصحيحين، عن أنس بن مالك، قال: صلَّيْتُ خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين. ولمسلم: لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أوّل قراءة ولا في آخرها . ونحوه في السنن عن عبد الله بن مُغَفَّل، رضي الله عنه .

فهذه مآخذ الأئمة، رحمهم الله، في هذه المسألة وهي قريبة؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر، ولله الحمد والمنة .
فصل
في فضلها

قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، رحمه الله، في تفسيره: حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني، حدثنا سلام بن وهب الجَنَديّ، حدثنا أبي، عن طاوس، عن ابن عباس؛ أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . فقال: "هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر، إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب".

وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُويه، عن سليمان بن أحمد، عن عليّ بن المبارك، عن زيد بن المبارك، به .

وقد روى الحافظ ابن مَرْدُويه من طريقين، عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن مِسْعَر، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتَّاب ليعلمه، فقال المعلم: اكتب، قال ما أكتب؟ قال: بسم الله، قال له عيسى: وما باسم الله؟ قال المعلم: ما أدري . قال له عيسى: الباء بَهاءُ الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة".

وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن الع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:42 am

هكذا وقع في رواية الإمام أحمد وقد روى النسائي في اليوم والليلة، وابن مَرْدُويه في تفسيره، من حديث خالد الحذاء، عن أبي تميمة هو الهجيمي، عن أبي المليح بن أسامة بن عمير، عن أبيه، قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال: "لا تقل هكذا، فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، ولكن قل: بسم الله، فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة" .فهذا من تأثير بركة بسم الله؛ ولهذا تستحب في أوّل كل عمل وقول. فتستحب في أوّل الخطبة لما جاء: "كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أجذم" ، [وتستحب البسملة عند دخول الخلاء ولما ورد من الحديث في ذلك ] ، وتستحب في أوّل الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن، من رواية أبي هريرة، وسعيد بن زيد، وأبي سعيد مرفوعًا: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" ، وهو حديث حسن. ومن العلماء من أوجبها عند الذكر هاهنا، ومنهم من قال بوجوبها مطلقًا، وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة، وأوجبها آخرون عند الذكر، ومطلقا في قول بعضهم، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وقد ذكر الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيت أهلك فسم الله؛ فإنه إن ولد لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات" وهذا لا أصل له، ولا رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ولا غيرها.

وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة: "قل: باسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك" . ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه، وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا" .

ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك: باسم الله، هل هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن؛ أما من قدره باسم، تقديره: باسم الله ابتدائي، فلقوله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 41]، ومن قدره بالفعل [أمرًا وخبرًا نحو: أبدَأ ببسم الله أو ابتدأت ببسم الله] ،فلقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] وكلاهما صحيح، فإن الفعل لا بُدّ له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله، إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكلا أو شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلاة، فالمشروع ذكر [اسم] الله في الشروع في ذلك كله، تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل، والله أعلم؛ ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث بشر بن عُمَارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إن أوّل ما نـزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: "يا محمد قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) قال: قال له جبريل: قل: باسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم، واقعد بذكر الله" . [هذا] لفظ ابن جرير .

وأما مسألة الاسم: هل هو المسمى أو غيره؟ ففيها للناس ثلاثة أقوال:

[أحدها : أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك، وقال فخر الدين الرازي -وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري-في مقدمات تفسيره:

قالت الحشوية والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير التسمية، وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا: أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، ثم نقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث.

ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى، بأنه قد يكون الاسم موجودًا والمسمى مفقودًا كلفظة المعدوم، وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون الاسم واحدًا والمسميات متعددة كالمشترك، وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى، وأيضا فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها، وأيضًا فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك، ولا يقوله عاقل، وأيضا فقد قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا" ، فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى، وأيضا فقوله: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى أضافها إليه، كما قال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74، 96] ونحو ذلك. والإضافة تقتضي المغايرة وقوله: فَادْعُوهُ بِهَا أي: فادعوا الله بأسمائه، وذلك دليل على أنها غيره، واحتج من قال: الاسم هو المسمى، بقوله تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن: 78] والمتبارك هو الله. والجواب: أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة، وأيضا فإذا قال الرجل: زينب طالق، يعني امرأته طالق، طلقت، ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق، والجواب: أن المراد أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق. قال الرازي: وأما التسمية فإنها جعل الاسم معينا لهذه الذات فهي غير الاسم أيضا، والله أعلم] .

( الله ) عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى، يقال: إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22 -24]، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] وفي الصحيحين، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة" ، وجاء تعدادها في رواية الترمذي، [وابن ماجه وبين الروايتين اختلاف زيادات ونقصان، وقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم: ألف في الكتاب والسنة الصحيحة، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور، وألف في اللوح المحفوظ] .

وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل ويفعل، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له. وقد نقل القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم، وروي عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة. قال الخطابي: ألا ترى أنك تقول: يا الله، ولا تقول: يا الرحمن، فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام .وقيل: إنه مشتق، واستدلوا عليه بقول رؤْبَة بن العَجّاج:

لله در الغــانيات المُــدّه

سبحـن واسـترجعن مـن تـألهي


فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر، وهو التأله، من أله يأله إلاهة وتألهًا، كما روي أن ابن عباس قرأ: "ويذرك وَإلاهَتَك" قال: عبادتك، أي: أنه كان يُعْبَد ولا يَعْبُد، وكذا قال مجاهد وغيره.

وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام: 3] أي: المعبود في السماوات والأرض، كما قال: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84]، ونقل سيبويه عن الخليل: أن أصله: إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة، قال سيبويه: مثل الناس، أصله: أناس، وقيل: أصل الكلمة: لاه، فدخلت الألف واللام للتعظيم وهذا اختيار سيبويه. قال الشاعر:

لاه ابـن عمـك لا أفضـلت في حسـب

عنـي ولا أنت ديـاني فتـخزونـي


قال القرطبي: بالخاء المعجمة، أي: فتسوسني، وقال الكسائي والفراء: أصله: الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية، كما قال: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف: 38] أي: لكن أنا، وقد قرأها كذلك الحسن، قال القرطبي: ثم قيل: هو مشتق من وله: إذا تحير، والوله ذهاب العقل؛ يقال: رجل واله، وامرأة ولهى، وماء موله: إذا أرسل في الصحاري، فالله تعالى تتحير أولو الألباب والفكر في حقائق صفاته، فعلى هذا يكون أصله: ولاه، فأبدلت الواو همزة، كما قالوا في وشاح: أشاح، ووسادة: أسادة، وقال فخر الدين الرازي: وقيل: إنه مشتق من ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته؛ لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] قال: وقيل: من لاه يلوه: إذا احتجب. وقيل: اشتقاقه من أله الفصيل، إذ ولع بأمه، والمعنى: أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال: وقيل: مشتق من أله الرجل يأله: إذا فزع من أمر نـزل به فألهه، أي: أجاره، فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه؛ لقوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88]، وهو المنعم لقوله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] وهو المطعم لقوله: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام: 14] وهو الموجد لقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78].

وقد اختار فخر الدين أنه اسم علم غير مشتق البتة، قال: وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء، ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه:

منها : أنه لو كان مشتقًا لاشترك في معناه كثيرون، ومنها : أن بقية الأسماء تذكر صفات له، فتقول: الله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل أنه ليس بمشتق، قال: فأما قوله تعالى: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ [إبراهيم: 1، 2] على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان، ومنها قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]، وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامدًا غير مشتق نظر، والله أعلم.

وحكى فخر الدين عن بعضهم أنه ذهب إلى أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي، ثم ضعفه، وهو حقيق بالتضعيف كما قال، وقد حكى فخر الدين هذا القول ثم قال: واعلم أن الخلق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة؛ فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته، وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام وجرها لغتان، وقيل: إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت.

وأصل ذلك الإله، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أوّلها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة، وفخمت تعظيما، فقيل: الله.

(الرحمن الرحيم) اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير ما يُفْهِم حكاية الاتفاق على هذا، وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك، كما تقدم في الأثر، عن عيسى عليه السلام، أنه قال: والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة.


وقد زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم وقد قال: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]، وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد: أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: الرحيم عربي، والرحمن عبراني، فلهذا جمع بينهما. قال أبو إسحاق: وهذا القول مرغوب عنه . وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" . قال: وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق.

قال: وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له، قال القرطبي: هما بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيد، وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك: رجل غضبان، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي: الرحمن: اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]، وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة، ثم حكي عن الخطابي وغيره: أنهم استشكلوا هذه الصفة، وقالوا: لعله أرفق كما جاء في الحديث: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وإنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" . وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه" ، وقال بعض الشعراء:

لا تطـلبن بـني آدم حـاجة

وسـل الـذي أبوابه لا تغـلق

الله يغضب إن تركت سـؤاله

وبني آدم حـين يسـأل يغضب

قال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي، حدثنا عثمان بن زُفَر، سمعت العَرْزَميّ يقول: الرحمن الرحيم، قال: الرحمن لجميع الخلق، الرحيم، قال: بالمؤمنين. قالوا: ولهذا قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان: 59] وقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43] فخصهم باسمه الرحيم، قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يُسم به غيره كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به؛ فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب، فصار يُضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب.

وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به، والتأكيد لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد ، وإنما هو من باب النعت [بعد النعت] ولا يلزم فيه ما ذكروه، وعلى هذا فيكون تقديم اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره، كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110]. وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة. وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2].

والحاصل : أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص.

فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة؛ فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه: أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن، جيء بلفظ الرحيم ليقطع التوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى. كذا رواه ابن جرير عن عطاء. ووجهه بذلك، والله أعلم.

وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن، حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110]؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَلي: "اكتب ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري ، وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان: 60].

والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جُحود وعناد وتعنت في كفرهم؛ فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن، قال ابن جرير: وقد أنشد لبعض الجاهلية الجُهَّال
ألا ضَـرَبَتْ تلك الفتـاةُ هَجِينَها

ألا قَـضَبَ الرحمنُ رَبى يمينـها


وقال سلامة بن جندب الطهوي:

عَجِلـتم علينا عَجْلَتينَـا عليكُمُ

ومـا يَشَأ الرّحْمَن يَعْقِد ويُطْلِـقِ


وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن: الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب، وقال: الرحمن الرحيم [الفاتحة: 3] الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها.

وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا حماد بن مَسْعَدة، عن عوف، عن الحسن، قال: الرحمن اسم ممنوع .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد [بن] يحيى بن سعيد القطان، حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو الأشهب، عن الحسن، قال: الرحمن: اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى .

وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قرآنه حرفًا حرفًا بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة من الكوفيين ومنهم من وصلها بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وكسر الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور. وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قوله تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ قال ابن عطية: ولم ترد بهذه قراءة عن أحد فيما علمت .

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) .

القراء السبعة على ضم الدال من قوله: ( الحمدُ لِله ) وهو مبتدأ وخبر. وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا "الحمدَ لِله" بالنصب وهو على إضمار فعل، وقرأ ابن أبي عبلة: "الحمدُ لُله" بضم الدال واللام إتباعًا للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ، وعن الحسن وزيد بن علي: "الحمدِ لِله" بكسر الدال إتباعًا للأول الثاني.

قال أبو جعفر بن جرير: معنى ( الحمد لله ) الشكر لله خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذَّاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا.

[وقال ابن جرير: ( الحمد لله ) ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا: ( الحمد لله ) ] .

قال: وقد قيل: إن قول القائل: الحمد لله، ثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى ، وقوله: الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه، ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر.

[وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية. وقال ابن عباس: ( الحمد لله ) كلمة كل شاكر، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل: ( الحمد لله ) شكرًا ] .

وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر؛ لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون إلا على المتعدية، ويكون بالجنان واللسان والأركان، كما قال الشاعر:

أفـادتكم النعماء مـني ثلاثة

يـدي ولساني والضمـير المحجبا


ولكنهم اختلفوا: أيهما أعم، الحمد أو الشكر؟ على قولين، والتحقيق أن بينهما عمومًا وخصوصًا، فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه؛ لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية، تقول: حَمدته لفروسيته وحمدته لكرمه. وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه ، لأنه يكون بالقول والعمل والنية، كما تقدم، وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية، لا يقال: شكرته لفروسيته، وتقول: شكرته على كرمه وإحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين، والله أعلم.

وقال أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري: الحمد نقيض الذم، تقول: حَمِدت الرجل أحمده حمدًا ومحمدة ، فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعم من الشكر. وقال في الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف، يقال: شكرته، وشكرت له. وباللام أفصح .

[وأما المدح فهو أعم من الحمد؛ لأنه يكون للحي وللميت وللجماد -أيضا-كما يمدح الطعام والمال ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضًا فهو أعم] .

ذكر أقوال السلف في الحمد


قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو معمر القطيعي، حدثنا حفص، عن حجاج، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال عمر: قد عَلِمْنا سبحان الله، ولا إله إلا الله، فما الحمد لله؟ فقال علي: كلمة رضيها الله لنفسه .

ورواه غير أبي مَعْمَر، عن حفص، فقال: قال عمر لعلي، وأصحابه عنده: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، قد عرفناها، فما الحمد لله؟ قال علي: كلمة أحبها [الله] لنفسه، ورضيها لنفسه، وأحب أن تقال .

وقال علي بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مِهْرَان، قال: قال ابن عباس: الحمد لله كلمة الشكر، وإذا قال العبد: الحمد لله، قال: شكرني عبدي. رواه ابن أبي حاتم.

وروى -أيضًا-هو وابن جرير، من حديث بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: أنه قال: الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له، والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك.

وقال كعب الأحبار: الحمد لله ثناء الله. وقال الضحاك: الحمد لله رداء الرحمن. وقد ورد الحديث بنحو ذلك.

قال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السَّكوني، حدثنا بقية بن الوليد، حدثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيب، عن الحكم بن عمير، وكانت له صحبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت: الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله، فزادك" .

وقد روى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا روح، حدثنا عوف، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، قال: قلت: يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي، تبارك وتعالى؟ فقال: "أما إن ربك يحب الحمد" .

ورواه النسائي، عن علي بن حجر، عن ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، به, .

وروى الترمذي، والنسائي وابن ماجه، من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير، عن طلحة بن خراش، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله" . وقال الترمذي: حسن غريب.

وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ" . وقال القرطبي في تفسيره، وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله، لكان الحمد لله أفضل من ذلك" . قال القرطبي وغيره: أي لكان إلهامه الحمد لله أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا؛ لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى، قال الله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا [الكهف: 46]. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: "أن عبدًا من عباد الله قال: يا رب، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقالا يا رب، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله -وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها" . وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا: قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أفضل من قول: لا إله إلا الله؛ لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد، وقال آخرون: لا إله إلا الله أفضل لأنها الفصل بين الإيمان والكفر، وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر في السنن: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" . وقد تقدم عن جابر مرفوعا: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله". وحسنه الترمذي.

والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد، وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث: "اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله" الحديث .

( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) والرب هو: المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى.

[ولا يستعمل الرب لغير الله، بل بالإضافة تقول: رب الدار رب كذا، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل، وقد قيل: إنه الاسم الأعظم] .والعالمين: جمع عالم، [وهو كل موجود سوى الله عز وجل] ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات [في السماوات والأرض] في البر والبحر، وكل قرن منها وجيل يسمى عالمًا أيضًا.

قال بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الفاتحة: 2] الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرضون، ومن فيهن وما بينهن، مما نعلم، وما لا نعلم.

وفي رواية سعيد بن جبير، وعكرمة، عن ابن عباس: رب الجن والإنس. وكذلك قال سعيد بن جبير، ومجاهد وابن جريج، وروي عن علي [نحوه] . وقال ابن أبي حاتم: بإسناد لا يعتمد عليه.

واستدل القرطبي لهذا القول بقوله: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1] وهم الجن والإنس. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم: عالم، وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو بن العلاء كل ما له روح يرتزق. وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم -وهو آخر خلفاء بني أمية ويعرف بالجعد ويلقب بالحمار -أنه قال: خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل الأرض عالم واحد وسائر ذلك لا يعلمه إلا الله، عز وجل.

وقال قتادة: رب العالمين، كل صنف عالم. وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى ( رب العالمين ) قال: الإنس عالم، والجن عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعة عشر ألف عالم، هو يشك، من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم، وخمسمائة عالم، خلقهم [الله] لعبادته. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

[وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح] .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الفرات، يعني ابن الوليد، عن معتب بن سمي، عن تُبَيع، يعني الحميري، في قوله: ( رب العالمين ) قال: العالمين ألف أمة فستمائة في البحر، وأربعمائة في البر.

[وحكي مثله عن سعيد بن المسيب] .

وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده:

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبيد بن واقد القيسي، أبو عباد، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان، حدثنا محمد بن المنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله، قال: قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه، فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك، فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن، وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق، يسأل: هل رئي من الجراد شيء أم لا؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه، فلما رآها كبر، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خلق الله ألف أمة، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه" .محمد بن عيسى هذا -وهو الهلالي-ضعيف.

وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال: لله ألف عالَم؛ ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، وقال وهب بن منبه: لله ثمانية عشر ألف عالَم؛ الدنيا عالم منها. وقال مقاتل: العوالم ثمانون ألفًا. وقال كعب الأحبار: لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل. نقله كله البغوي، وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: إن لله أربعين ألف عالم؛ الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها، وقال الزجاج: العالم كل ما خلق في الدنيا والآخرة. قال القرطبي: وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين؛ كقوله: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ والعالم مشتق من العلامة(قلت): لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز:

فيا عجبـا كيف يعصـى الإلـه

أم كـيف يجحـده الجاحـد

وفي كـل شـيء لـه آيــة

تـدل علـى أنـه واحــد


الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) .

وقوله: ( الرحمن الرحيم) تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن إعادته.

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

قرأ بعض القراء: ( مَلِك يَوْمِ الدِّينِ ) وقرأ آخرون: ( مَالِكِ ) .وكلاهما صحيح متواتر في السبع.

[ويقال: مليك أيضًا، وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ: "ملكي يوم الدين" وقد رجح كلا من القراءتين مرجحون من حيث المعنى، وكلاهما صحيحة حسنة، ورجح الزمخشري ملك؛ لأنها قراءة أهل الحرمين ولقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ وقوله: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ وحكي عن أبي حنيفة أنه قرأ "مَلَكَ يومَ الدين" على أنه فعل وفاعل ومفعول، وهذا غريب شاذ جدا] .وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئًا غريبًا حيث قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأذْرَمِيُّ، حدثنا عبد الوهاب عن عدي بن الفضل، عن أبي المطرف، عن ابن شهاب: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وأول من أحدث "مَلِكِ" مروان .قلت: مروان عنده علم بصحة ما قرأه، لم يطلع عليه ابن شهاب، والله أعلم.

وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مَرْدُويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ومالك مأخوذة من الملْك، كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 40] وقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 1، 2] وملك: مأخوذ من الملك كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] وقال: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ [الأنعام: 73] وقال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان: 26].

وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38] وقال تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا [طه: 108]، وقال: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105].

وقال الضحاك عن ابن عباس: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما، كملكهم في الدنيا. قال: ويوم الدين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، إلا من عفا عنه. وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف، وهو ظاهر.

وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى أن تفسير ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) أنه القادر على إقامته، ثم شرع يضعفه.

والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم ، وأن كلا من القائلين بهذا وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر، ولا ينكره، ولكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا، كما قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان: 26] والقول الثاني يشبه قوله: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ، [الأنعام: 73] والله أعلم.

والمَلِك في الحقيقة هو الله عز وجل؛ قال الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله، وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟" وفي القرآن العظيم: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وفي الصحيحينSadمثل الملوك على الأسرة).

والدين الجزاء والحساب؛ كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ، وقال: أَئِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" أي حاسب نفسه لنفسه؛ كما قال عمر رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .

[قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من ( إياك ) وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر وهي قراءة شاذة مردودة؛ لأن "إيا" ضوء الشمس. وقرأ بعضهم: "أياك" بفتح الهمزة وتشديد الياء، وقرأ بعضهم: "هياك" بالهاء بدل الهمزة، كما قال الشاعر:

فهيـاك والأمر الذي إن تـراحبت

مـوارده ضاقـت عليك مصـادره


و ( نستعين ) بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم وقيس] .العبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق مُعَبّد، وبعير مُعَبّد، أي: مذلل، وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف.

وقدم المفعول وهو ( إياك ) ، وكرر؛ للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة. والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) [الفاتحة: 5] فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك: 29] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا [المزمل: 9]، وكذلك هذه الآية الكريمة: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسبة ، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى؛ فلهذا قال: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك؛ ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك، وهو قادر عليه، كما جاء في الصحيحين، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" . وفي صحيح مسلم، من حديث العلاء بن عبد الرحمن، مولى الحُرَقَة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2] قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 3] قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) [الفاتحة: 5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6، 7] قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" .وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) يعني: إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك ( وإياك نستعين ) على طاعتك وعلى أمورنا كلها.

وقال قتادة: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم.

وإنما قدم: ( إياك نعبد ) على ( وإياك نستعين ) لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم.

فإن قيل: فما معنى النون في قوله: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا تناسب هذا المقام؟ وقد أجيب: بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم، ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها ، وتوسط لهم بخير، ومنهم من قال: يجوز أن تكون للتعظيم، كأن العبد قيل له: إذا كنت في العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، وإذا كنت خارج العبادة فلا تقل: نحن ولا فعلنا، ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لافتقار الجميع إلى الله عز وجل. ومنهم من قال: ألطف في التواضع من إياك أعبد، لما في الثاني من تعظيمه نفسه من جعله نفسه وحده أهلا لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى، كما قال بعضهم:

لا تـدعني إلا بيـا عبـدها

فـإنه أشـرف أسمائــي


وقد سمى الله رسوله بعبده في أشرف مقاماته [فقال] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف: 1] وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا [الإسراء: 1] فسماه عبدًا عند إنـزاله عليه وقيامه في الدعوة وإسرائه به، وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين له، حيث يقول: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 97-99].

وقد حكى فخر الدين في تفسيره عن بعضهم: أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة؛ لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق؛ قال: ولأن الله متولي مصالح عبده، والرسول متولي مصالح أمته وهذا القول خطأ، والتوجيه أيضًا ضعيف لا حاصل له، ولم يتعرض له فخر الدين بتضعيف ولا رده. وقال بعض الصوفية: العبادة إما لتحصيل ثواب ورد عقاب؛ قالوا: وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى، وهذا -أيضًا-عندهم ضعيف، بل العالي أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال، قالوا: ولهذا يقول المصلي: أصلي لله، ولو كان لتحصيل الثواب ودرء العذاب لبطلت صلاته. وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا: كون العبادة لله عز وجل، لا ينافي أن يطلب معها ثوابا، ولا أن يدفع عذابًا، كما قال ذلك الأعرابي: أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حولها ندندن" .

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

قراءة الجمهور بالصاد. وقرئ: "السراط" وقرئ بالزاي، قال الفراء: وهي لغة بني عذرة وبلقين وبني كلب.

لما تقدم الثناء على المسؤول، تبارك وتعالى، ناسب أن يعقب بالسؤال؛ كما قال: "فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل" وهذا أكمل أحوال السائل، أن يمدح مسؤوله، ثم يسأل حاجته [وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: ( اهدنا ) ] ، لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد الله تعالى إليه لأنه الأكمل، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه، كما قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول، كقول ذي النون: لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول، كقول الشاعر:

أأذكـر حاجـتي أم قـد كفانـي

حيـاؤك إن شيمـتك الحيـاء

إذا أثـنى عليك المـرء يومـا

كفـاه مـن تعرضـه الثنـاء


والهداية هاهنا: الإرشاد والتوفيق، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فتضمن معنى ألهمنا، أو وفقنا، أو ارزقنا، أو اعطنا؛ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] أي: بينا له الخير والشر، وقد تعدى بإلى، كقوله تعالى: اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 121] فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة، وكذلك قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] وقد تعدى باللام، كقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف: 43] أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلا .وأما الصراط المستقيم، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن "الصراط المستقيم" هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه.

وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي:

أمـيرُ المؤمـنين على صِـراطٍ

إذا اعـوج المـوارِدُ مُسْتَقــيمِ


قال: والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر، قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل، وصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوج باعوجاجه.

ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله وللرسول؛ فروي أنه كتاب ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:46 am

[بسم الله الرحمن الرحيم]
تفسير سورة البقرة


خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، وستة آلاف ومائة وعشرون كلمة، ومائتان وستة وثمانون آية في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ذكر ما ورد في فضلها


قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يسار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البقرة سَنَام القرآن وذروته، نـزل مع كل آية منها ثمانون مَلَكًا، واستخرجت: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] من تحت العرش، فوصلت بها، أو فوصلت بسورة البقرة، ويس: قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله، والدار الآخرة إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم " انفرد به أحمد .

وقد رواه أحمد -أيضًا-عن عارم، عن عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان -وليس بالنَّهْدي-عن أبيه، عن مَعْقِل بن يَسَار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرؤوها على موتاكم " يعني: يس .

فقد بَيَّنَّا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود، والنسائي، وابن ماجه .

وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير، وفيه ضعف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل شيء سنام، وإن سَنَام القرآن البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي " .

وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان " وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سِنان بن سعد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه " .

سنان بن سعد، ويقال بالعكس، وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره.

وقال أبو عبيد: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في اليوم والليلة، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال، حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عجلان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم، يَضَع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى، ويدع سورة البقرة يقرؤها، فإن الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفْرَ البيوت، الجَوْفُ الصِّفْر من كتاب الله " .

وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة، عن محمد بن نصر، عن أيوب بن سليمان، به .

وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط . وقال: إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لبابًا، وإن لباب القرآن المفصل . وروى -أيضا-من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها وفي رواية: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق.

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارًا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام " .

رواه أبو القاسم الطبراني، وأبو حاتم، وابن حبان في صحيحه .

وقد روى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد المقبري، عن عطاء مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد، فاستقرأهم فاستقرأ كُلّ واحد منهم، يعني ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا، فقال: " ما معك يا فلان؟ " قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: " أمعك سورة البقرة؟" قال: نعم. قال: " اذهب فأنت أميرهم " فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا القرآن واقرؤوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسْكًا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه، فيرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أوكِي على مسك " .

هذا لفظ رواية الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن. ثم رواه من حديث الليث، عن سعيد، عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم .

قال البخاري: وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أسَيد بن حُضَير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت، فسكَنتْ، فقرأ فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها. فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اقرأ يا ابن حُضَير " . قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: " وتدري ما ذاك؟ " . قال: لا. قال: " تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم" .

وهكذا رواه الإمام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب فضائل القرآن، عن عبد الله بن صالح، ويحيى بن بكير، عن الليث به .

وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير، كما تقدم ، والله أعلم.

وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس، رضي الله عنه، وذلك فيما رواه أبو عبيد [القاسم] : حدثنا عباد بن عباد، عن جرير بن حازم، عن جرير بن يزيد: أن أشياخ أهل المدينة حدثوه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح، قال: " فلعله قرأ سورة البقرة " . قال: فسئل ثابت، فقال: قرأت سورة البقرة .

وهذا إسناد جيد، إلا أن فيه إبهاما، ثم هو مرسل، والله أعلم.

[ذكر] ما ورد في فضلها مع آل عمران

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن مهاجر حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: " تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة " . قال: ثم سكت ساعة، ثم قال: " تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرْقان من طير صَوافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا " .

وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر بعضه ، وهذا إسناد حسن على شرط مسلم، فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم، ووثقه ابن معين، وقال النسائي: ليس به بأس، إلا أن الإمام أحمد قال فيه: هو منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه. وقال الدارقطني: ليس بالقوي.

قلت: ولكن لبعضه شواهد؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي؛ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما " ثم قال: " اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة " .

وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام مَمْطور الحَبَشِيّ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان [الباهلي] ، به .

الزهراوان: المنيران، والغياية: ما أظلك من فوقك. والفِرْقُ: القطعة من الشيء، والصواف: المصطفة المتضامة . والبطلة السحرة، ومعنى " لا تستطيعها " أي: لا يمكنهم حفظها، وقيل: لا تستطيع النفوذ في قارئها، والله أعلم.

ومن ذلك حديث النَّوّاس بن سِمْعان. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي، عن جُبَير بن نُفَير، قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران " . وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف يُحَاجَّان عن صاحبهما " .

ورواه مسلم، عن إسحاق بن منصور، عن يزيد بن عبد ربه، به .

والترمذي، من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، به . وقال: حسن غريب.

وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال حماد: أحسبه عن أبي منيب، عن عمه؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران، فلما قضى صلاته قال له كعب: أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده، إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب . قال: فأخبرني به. قال: لا والله لا أخبرك به، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت .

[قال أبو عبيد] : وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر: أنه سمع أبا أمامة يقول: إن أخًا لكم أرِي في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان: هل فيكم من يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران؟ قال: فإذا قال الرجل: نعم. دنتا منه بأعذاقهما، حتى يتعلق بهما فتُخطران به الجبل .

[قال أبو عبيد] وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي عمران: أنه سمع أم الدرداء تقول: إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له، فقتله، وإنه أقيدَ به ، فقتل، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة، حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة، ثم إن آل عمران انسلت منه، وأقامت البقرة جمعة، فقيل لها: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] قال: فخرجت كأنها السحابة العظيمة .

قال أبو عبيد: أراه، يعني: أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه، فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن.

وقال -أيضًا-: حدثنا أبو مُسْهِر الغساني، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي: أن يزيد بن الأسود الجُرَشي كان يحدث : أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم، برئ من النفاق حتى يمسي، ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح، قال: فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه .

[قال أيضًا] : وحدثنا يزيد، عن وقاء بن إياس، عن سعيد بن جبير، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان -أو كتب-من القانتين .

فيه انقطاع، ولكن ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة .

[ذكر] ما ورد في فضل السبع الطول

قال أبو عبيد: حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أعطيت السبع الطُّوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصّل " .

هذا حديث غريب، وسعيد بن بشير، فيه لين.

وقد رواه أبو عبيد [أيضا] ، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن سعيد بن أبي هلال، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال... فذكره، والله أعلم. ثم قال حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن حبيب بن هند الأسلمي، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ السبع فهو حَبْر" .

وهذا أيضًا غريب، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي، روى عنه عمرو بن أبي عمرو وعبد الله بن أبي بكرة، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا، فالله أعلم.

وقد رواه الإمام أحمد، عن سليمان بن داود، وحسين، كلاهما عن إسماعيل بن جعفر، به .

ورواه -أيضًا-عن أبي سعيد، عن سليمان بن بلال، عن حبيب بن هند، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ السبع الأوَل من القرآن فهو حَبْر " .

قال أحمد: وحدثنا حسين، حدثنا ابن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

قال عبد الله بن أحمد: وهذا أرى فيه، عن أبيه، عن الأعرج، ولكن كذا كان في الكتاب بلا " أبي " ، أغفله أبي، أو كذا هو مرسل، ثم قال أبو عبيد: حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر: 87]، قال: هي السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس. قال: وقال مجاهد: هي السبع الطول. وهكذا قال مكحول، وعطية بن قيس، وأبو محمد الفارسي ،وشَداد بن عبيد الله، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك، وفي تعدادها، وأن يونس هي السابعة.

فصل

والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف، قال بعض العلماء: وهي مشتملة على ألف خبر، وألف أمر، وألف نهي.

وقال العادون: آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وحروفها خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، فالله أعلم.

قال ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس: نزلت بالمدينة سورة البقرة.

وقال خَصيف: عن مجاهد، عن عبد الله بن الزبير، قال: أنـزل بالمدينة سورة البقرة.

وقال الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن أبي الزِّناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: نـزلت البقرة بالمدينة.

وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء، والمفسرين، ولا خلاف فيه.

وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [الفارسي] حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عُبيس بن ميمون، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا: سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا: السورة التي يذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران، وكذا القرآن كله " .

هذا حديث غريب لا يصح رفعه، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص، وهو ضعيف الرواية، لا يحتج به. وقد ثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود: أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ثم قال : هذا مقام الذي أنـزلت عليه سورة البقرة. أخرجاه .

وروى ابن مَرْدُويه، من حديث شعبة، عن عقيل بن طلحة، عن عتبة بن فرقد قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرًا ، فقال: " يا أصحاب سورة البقرة " . وأظن هذا كان يوم حنين، حين ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم: " يا أصحاب الشجرة " ، يعني أهل بيعة الرضوان. وفي رواية: " يا أصحاب البقرة " ؛ ولينشطهم بذلك، فجعلوا يقبلون من كل وجه . وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة، جعل الصحابة يفرون لكثافة حَشْر بني حنيفة، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة، حتى فتح الله عليهم . رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الم (1)

قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال: هي مما استأثر الله بعلمه، فردوا علمها إلى الله، ولم يفسروها [حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم به، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خثيم، واختاره أبو حاتم بن حبان ] .

ومنهم من فسَّرها، واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما هي أسماء السور [قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: وعليه إطباق الأكثر، ونقله عن سيبويه أنه نص عليه] ، ويعتضد هذا بما ورد في الصحيحين، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: ( الم ) السجدة، و ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ) .

وقال سفيان الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: أنه قال: (الم) و حم و المص و ص فواتح افتتح الله بها القرآن.

وكذا قال غيره: عن مجاهد. وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عنه، أنه قال: ( الم )، اسم من أسماء القرآن.

وهكذا قال قتادة، وزيد بن أسلم، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد: أنه اسم من أسماء السور ، فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن، فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول: قرأت المص ، إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف، لا لمجموع القرآن. والله أعلم.

وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى. فقال الشعبي: فواتح السور من أسماء الله تعالى، وكذلك قال سالم بن عبد الله، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، وقال شعبة عن السدي: بلغني أن ابن عباس قال: ( الم ) اسم من أسماء الله الأعظم . هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة.

ورواه ابن جرير عن بُنْدَار، عن ابن مَهْدِي، عن شعبة، قال: سألت السدي عن حم و طس و ( الم )، فقال: قال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم.

وقال ابن جرير: وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو النعمان، حدثنا شعبة، عن إسماعيل السدي، عن مُرَّة الهمداني قال: قال عبد الله، فذكر نحوه [وحكي مثله عن علي وابن عباس] .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى.

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عُلية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة أنه قال: ( الم )، قسم.

ورويا -أيضًا-من حديث شريك بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس: ( الم ) ، قال: أنا الله أعلم.

وكذا قال سعيد بن جبير، وقال السُّدِّي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرّة الهمذاني عن ابن مسعود. وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( الم ). قال: أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى.

وقال أبو جعفر الرّازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: ( الم ) قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفًا دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعَجب، فقال: وأعْجَب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؛ فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله، واللام لطف الله، والميم مجد الله، والألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون [سنة] . هذا لفظ ابن أبي حاتم. ونحوه رواه ابن جرير، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن، فهي أسماء السور، ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دَلّ على اسم من أسمائه وصفة من صفاته، كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه. قال: ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله، وعلى صفة من صفاته، وعلى مدة وغير ذلك، كما ذكره الرّبيع بن أنس عن أبي العالية؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معان كثيرة، كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين، كقوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف: 22، 23]. وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله، كقوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] وتطلق ويراد بها الجماعة، كقوله: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص: 23]، وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا [النحل: 36] وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] أي: بعد حين على أصح القولين، قال: فكذلك هذا.

هذا حاصل كلامه موجهًا، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية، فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا، وعلى هذا، وعلى هذا معًا، ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح، إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول، ليس هذا موضع البحث فيها، والله أعلم؛ ثم إن لفظ الأمة يدل على كل معانيه في سياق الكلام بدلالة الوضع، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره، فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به.


وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة، فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا، كما قال الشاعر:

قلنــا قفــي لنــا فقـالت قـاف

لا تَحْسَــبِي أنــا نَسـينا الإيجـاف


تعني: وقفت. وقال الآخر:

مــا للظليــم عَـالَ كَـيْفَ لا يـا

ينقَـــدُّ عنـــه جــلده إذا يــا


قال ابن جرير: كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من يفعل، وقال الآخر:

بــالخير خــيرات وإن شـرًا فـا

ولا أريـــد الشـــر إلا أن تــا


يقول: وإن شرًا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام، والله أعلم.

[قال القرطبي: وفي الحديث: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" الحديث. قال شقيق: هو أن يقول في اقتل: اق] .

وقال خصيف، عن مجاهد، أنه قال: فواتح السور كلها ق و ص و حم و طسم و الر وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم، استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا، كما يقول القائل: ابني يكتب في: ا ب ت ث، أي: في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها. حكاه ابن جرير.

قلت: مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفًا، وهي: ا ل م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن، يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددًا، والمذكور منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك من صناعة التصريف.

[قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته، وهذه الأجناس المعدودة ثلاثون بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينـزل منـزلة كله] .


ومن هاهنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلامًا، فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينـزلها سبحانه وتعالى عبثًا ولا سدى؛ ومن قال من الجهلة: إنَّه في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية، فقد أخطأ خطأ كبيرًا، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا، وقلنا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7].

ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين. هذا مقام.

المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور، ما هي؟ مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها. فقال بعضهم: إنما ذكرت لنعرف بها أوائل السور. حكاه ابن جرير، وهذا ضعيف؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه بالبسملة تلاوة وكتابة.

وقال آخرون: بل ابتدئ بها لتُفْتَحَ لاستماعها أسماعُ المشركين -إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن -حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلَّف منه. حكاه ابن جرير -أيضًا-، وهو ضعيف أيضًا؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها، بل غالبها ليس كذلك، ولو كان كذلك -أيضًا-لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك. ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابًا للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه.

وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه [تركب] من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.

ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1، 2]. الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران: 1-3]. المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف: 1، 2]. الر * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم: 1] الم * تَنـزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 1، 2]. حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت: 1، 2]. حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 1-3]، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم.


وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار، صاحب المغازي، حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مر أبو ياسر بن أخطب، في رجال من يهود، برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [هدى للمتقين] [البقرة: 1، 2 ] فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون -والله-لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنـزل الله عليه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالوا: يا محمد، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنـزل الله عليك: الم * ذلك الكتاب لا [ريب] ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى". فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: "نعم". قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: "نعم"، قال: ما ذاك؟ قال: المص ، قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد سبعون ، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال: "نعم" قال: ما ذاك ؟ قال: الر . قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان. فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: "نعم"، قال: ماذا؟ قال: المر . قال: فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين . فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نـزلت فيهم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] .


فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم والله أعلم.

[بسم الله الرحمن الرحيم]
تفسير سورة البقرة


خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، وستة آلاف ومائة وعشرون كلمة، ومائتان وستة وثمانون آية في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ذكر ما ورد في فضلها


قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يسار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البقرة سَنَام القرآن وذروته، نـزل مع كل آية منها ثمانون مَلَكًا، واستخرجت: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] من تحت العرش، فوصلت بها، أو فوصلت بسورة البقرة، ويس: قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله، والدار الآخرة إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم " انفرد به أحمد .

وقد رواه أحمد -أيضًا-عن عارم، عن عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان -وليس بالنَّهْدي-عن أبيه، عن مَعْقِل بن يَسَار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرؤوها على موتاكم " يعني: يس .

فقد بَيَّنَّا بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود، والنسائي، وابن ماجه .

وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير، وفيه ضعف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل شيء سنام، وإن سَنَام القرآن البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي " .

وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي، من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان " وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سِنان بن سعد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه " .

سنان بن سعد، ويقال بالعكس، وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره.

وقال أبو عبيد: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: إن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في اليوم والليلة، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال، حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عجلان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم، يَضَع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى، ويدع سورة البقرة يقرؤها، فإن الشيطان يفرّ من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفْرَ البيوت، الجَوْفُ الصِّفْر من كتاب الله " .

وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة، عن محمد بن نصر، عن أيوب بن سليمان، به .

وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط . وقال: إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لبابًا، وإن لباب القرآن المفصل . وروى -أيضا-من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها وفي رواية: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق.

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارًا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام " .

رواه أبو القاسم الطبراني، وأبو حاتم، وابن حبان في صحيحه .

وقد روى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن جعفر، عن سعيد المقبري، عن عطاء مولى أبي أحمد، عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد، فاستقرأهم فاستقرأ كُلّ واحد منهم، يعني ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا، فقال: " ما معك يا فلان؟ " قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: " أمعك سورة البقرة؟" قال: نعم. قال: " اذهب فأنت أميرهم " فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا القرآن واقرؤوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسْكًا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه، فيرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أوكِي على مسك " .

هذا لفظ رواية الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن. ثم رواه من حديث الليث، عن سعيد، عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا فالله أعلم .

قال البخاري: وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أسَيد بن حُضَير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت، فسكَنتْ، فقرأ فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها. فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اقرأ يا ابن حُضَير " . قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظُّلَّة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: " وتدري ما ذاك؟ " . قال: لا. قال: " تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم" .

وهكذا رواه الإمام العَالم أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب فضائل القرآن، عن عبد الله بن صالح، ويحيى بن بكير، عن الليث به .

وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير، كما تقدم ، والله أعلم.

وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس، رضي الله عنه، وذلك فيما رواه أبو عبيد [القاسم] : حدثنا عباد بن عباد، عن جرير بن حازم، عن جرير بن يزيد: أن أشياخ أهل المدينة حدثوه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس؟ لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح، قال: " فلعله قرأ سورة البقرة " . قال: فسئل ثابت، فقال: قرأت سورة البقرة .

وهذا إسناد جيد، إلا أن فيه إبهاما، ثم هو مرسل، والله أعلم.

[ذكر] ما ورد في فضلها مع آل عمران

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا بشير بن مهاجر حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: " تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة " . قال: ثم سكت ساعة، ثم قال: " تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرْقان من طير صَوافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا " .

وروى ابن ماجه من حديث بشير بن المهاجر بعضه ، وهذا إسناد حسن على شرط مسلم، فإن بشيرا هذا أخرج له مسلم، ووثقه ابن معين، وقال النسائي: ليس به بأس، إلا أن الإمام أحمد قال فيه: هو منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تجيء بالعجب. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه. وقال الدارقطني: ليس بالقوي.

قلت: ولكن لبعضه شواهد؛ فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي؛ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما " ثم قال: " اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة " .

وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام مَمْطور الحَبَشِيّ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عجلان [الباهلي] ، به .

الزهراوان: المنيران، والغياية: ما أظلك من فوقك. والفِرْقُ: القطعة من الشيء، والصواف: المصطفة المتضامة . والبطلة السحرة، ومعنى " لا تستطيعها " أي: لا يمكنهم حفظها، وقيل: لا تستطيع النفوذ في قارئها، والله أعلم.

ومن ذلك حديث النَّوّاس بن سِمْعان. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي، عن جُبَير بن نُفَير، قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران " . وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما فرْقَان من طير صَوَاف يُحَاجَّان عن صاحبهما " .

ورواه مسلم، عن إسحاق بن منصور، عن يزيد بن عبد ربه، به .

والترمذي، من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، به . وقال: حسن غريب.

وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال حماد: أحسبه عن أبي منيب، عن عمه؛ أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران، فلما قضى صلاته قال له كعب: أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده، إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب . قال: فأخبرني به. قال: لا والله لا أخبرك به، ولو أخبرتك لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت .

[قال أبو عبيد] : وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر: أنه سمع أبا أمامة يقول: إن أخًا لكم أرِي في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان تهتفان: هل فيكم من يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم من يقرأ سورة آل عمران؟ قال: فإذا قال الرجل: نعم. دنتا منه بأعذاقهما، حتى يتعلق بهما فتُخطران به الجبل .

[قال أبو عبيد] وحدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي عمران: أنه سمع أم الدرداء تقول: إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له، فقتله، وإنه أقيدَ به ، فقتل، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة، حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة، ثم إن آل عمران انسلت منه، وأقامت البقرة جمعة، فقيل لها: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] قال: فخرجت كأنها السحابة العظيمة .

قال أبو عبيد: أراه، يعني: أنهما كانتا معه في قبره تدفعان عنه وتؤنسانه، فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن.

وقال -أيضًا-: حدثنا أبو مُسْهِر الغساني، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي: أن يزيد بن الأسود الجُرَشي كان يحدث : أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم، برئ من النفاق حتى يمسي، ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح، قال: فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه .

[قال أيضًا] : وحدثنا يزيد، عن وقاء بن إياس، عن سعيد بن جبير، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان -أو كتب-من القانتين .

فيه انقطاع، ولكن ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة .

[ذكر] ما ورد في فضل السبع الطول

قال أبو عبيد: حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أعطيت السبع الطُّوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصّل " .

هذا حديث غريب، وسعيد بن بشير، فيه لين.

وقد رواه أبو عبيد [أيضا] ، عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن سعيد بن أبي هلال، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال... فذكره، والله أعلم. ثم قال حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن حبيب بن هند الأسلمي، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ السبع فهو حَبْر" .

وهذا أيضًا غريب، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي، روى عنه عمرو بن أبي عمرو وعبد الله بن أبي بكرة، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا، فالله أعلم.

وقد رواه الإمام أحمد، عن سليمان بن داود، وحسين، كلاهما عن إسماعيل بن جعفر، به .

ورواه -أيضًا-عن أبي سعيد، عن سليمان بن بلال، عن حبيب بن هند، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ السبع الأوَل من القرآن فهو حَبْر " .

قال أحمد: وحدثنا حسين، حدثنا ابن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

قال عبد الله بن أحمد: وهذا أرى فيه، عن أبيه، عن الأعرج، ولكن كذا كان في الكتاب بلا " أبي " ، أغفله أبي، أو كذا هو مرسل، ثم قال أبو عبيد: حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر: 87]، قال: هي السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس. قال: وقال مجاهد: هي السبع الطول. وهكذا قال مكحول، وعطية بن قيس، وأبو محمد الفارسي ،وشَداد بن عبيد الله، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك، وفي تعدادها، وأن يونس هي السابعة.

فصل

والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف، قال بعض العلماء: وهي مشتملة على ألف خبر، وألف أمر، وألف نهي.

وقال العادون: آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وحروفها خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة حرف، فالله أعلم.

قال ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس: نزلت بالمدينة سورة البقرة.

وقال خَصيف: عن مجاهد، عن عبد الله بن الزبير، قال: أنـزل بالمدينة سورة البقرة.

وقال الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن أبي الزِّناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: نـزلت البقرة بالمدينة.

وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء، والمفسرين، ولا خلاف فيه.

وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا الحسن بن علي بن الوليد [الفارسي] حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عُبيس بن ميمون، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه، قال: قال رسول الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:47 am


ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

قال ابن جُرَيج: قال ابن عباس: "ذَلِكَ الْكِتَابُ" : هذا الكتاب. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسديّ ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، وابن جريج: أن ذلك بمعنى هذا، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم.

و ( الْكِتَابُ ) القرآن. ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل، كما حكاه ابن جرير وغيره، فقد أبعد النَّجْعَة وأغْرق في النـزع، وتكلف ما لا علم له به.

والرّيب: الشك، قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا رَيْبَ فِيهِ ) لا شك فيه.

وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافًا.

[وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل:

بثينــة قــالت يـا جـميل أربتنـي

فقلــت كلانــا يـا بثيـن مـريب


واستعمل -أيضًا-في الحاجة كما قال بعضهم :

قضينــا مــن تهامـة كـل ريـب

وخــيبر ثــم أجممنــا السـيوفا]


ومعنى الكلام: أن هذا الكتاب -وهو القرآن-لا شك فيه أنه نـزل من عند الله، كما قال تعالى في السجدة: الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 1، 2]. [وقال بعضهم: هذا خبر ومعناه النهي، أي: لا ترتابوا فيه] .

ومن ا, لقراء من يقف على قوله: ( لا رَيْبَ ) ويبتدئ بقوله: ( فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) والوقف على قوله تعالى: ( لا رَيْبَ فِيهِ ) أولى للآية التي ذكرنا، ولأنه يصير قوله: ( هُدًى ) صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: ( فِيهِ هُدًى ) .

و ( هُدًى ) يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.


وخصّت الهداية للمتَّقين. كما قال: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44]. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .

وقد قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) يعني: نورًا للمتقين.

وقال الشعبي: هدى من الضلالة. وقال سعيد بن جبير: تبيان للمتَّقين. وكل ذلك صحيح.

وقال السدي: عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) قال: هم المؤمنون .

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( لِلْمُتَّقِينَ ) أي: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.

وقال أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ( لِلْمُتَّقِينَ ) قال: المؤمنين الذين يتَّقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي.

وقال سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري، قوله: ( لِلْمُتَّقِينَ ) قال: اتَّقوا ما حرّم الله عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.

وقال أبو بكر بن عياش: سألني الأعمش عن المتَّقين، قال: فأجبته. فقال [لي] سل عنها الكلبي، فسألته فقال: الذين يجتنبون كبائر الإثم. قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: نرى أنه كذلك. ولم ينكره.

وقال قتادة ( لِلْمُتَّقِينَ ) هم الذين نعتهم الله بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الآية والتي بعدها [البقرة: 3، 4].

واختار ابن جرير: أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال.

وقد روى الترمذي وابن ماجه، من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل، عن عبد الله بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد، وعطية بن قيس، عن عطية السعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس" . ثم قال الترمذي: حسن غريب .


وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا إسحاق بن سليمان، يعني الرازي، عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون أبي حمزة، قال: كنت جالسًا عند أبي وائل، فدخل علينا رجل، يقال له: أبو عفيف، من أصحاب معاذ، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتَّقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرّحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتَّقون؟ قال: قوم اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة، فيمرون إلى الجنة .

وأصل التقوى: التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية. قال النابغة:

سـقط النصيـف ولـم تـرد إسـقاطه

فتناولتــــه واتقتنـــا بـــاليد


وقال الآخر:

فـألقت قناعـا دونـه الشـمس واتقت

بأحسـن موصـولين كـف ومعصـم


وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبيّ بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.

وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:

خــــل الذنــــوب صغيرهــا

وكبـيـرهــــا ذاك التقـــــى

واصنـــع كمـــاش فـــوق أر

ض الشــوك يحــذر مــا يـرى

لا تحـــــقـرن صغــــيـرة

إن الجبــــال مـــن الحــصى


وأنشد أبو الدرداء يومًا:

يريــد المــرء أن يــؤتى منـاه

ويـــأبـى اللــه إلا مـــا أرادا

يقــول المــرء فــائدتي ومـالي

وتقــوى اللـه أفضـل مـا اسـتفادا


وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرًا من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله" .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3)


قال أبو جعفر الرازي، عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: الإيمان التصديق.


وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس، ( يُؤْمِنُونَ ) يصدقون.

وقال مَعْمَر عن الزهري: الإيمان العمل.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( يُؤْمِنُونَ ) يخشون.

قال ابن جرير وغيره: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادًا وعملا قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17]، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال؛ كقوله: إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الإنشقاق: 25، والتين: 6]، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا.

هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد إجماعًا: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أوردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.

ومنهم من فسره بالخشية، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك: 12]، وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] .

وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد.

قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله.

وكذا قال قتادة بن دعامة.

وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة، وأمر النار، وما ذكر في القرآن.

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( بِالْغَيْبِ ) قال: بما جاء منه، يعني: مِنَ الله تعالى.

وقال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، قال: الْغَيْب القرآن.


وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب.

وقال إسماعيل بن أبي خالد: ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: بغيب الإسلام.

وقال زيد بن أسلم: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: بالقدر. فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.

وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به، قال: فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1-5] .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من طرق، عن الأعمش، به .

وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [الإمام] أحمد، حدثنا أبو المغيرة، أخبرنا الأوزاعي، حدثني أسيد بن عبد الرحمن، عن خالد بن دُرَيك، عن ابن مُحَيريز، قال: قلت لأبي جمعة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أحدثك حديثًا جيدًا: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: "نعم"، "قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" .

طريق أخرى: قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن صالح بن جُبَيْر، قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس، ليصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا؛ أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم أجرًا منا؟ آمنا بك واتبعناك، قال: "ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا" مرتين .

ثم رواه من حديث ضَمْرَة بن ربيعة، عن مرزوق بن نافع، عن صالح بن جبير، عن أبي جمعة، بنحوه .

وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث، كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقا.

وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي، عن المغيرة بن قيس التميمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟". قالوا: الملائكة. قال: "وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟". قالوا: فالنبيون. قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينـزل عليهم؟". قالوا: فنحن. قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها" .

قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.

قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله أو نحوه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، حدثنا إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري، أخبرني جعفر بن محمود، عن جدته تويلة بنت أسلم، قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء ، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام.

قال إبراهيم: فحدثني رجال من بني حارثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال: "أولئك قوم آمنوا بالغيب" .

هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)


قال ابن عباس: أي: يقيمون الصلاة بفروضها.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.

وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.

وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها.

وقال علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال: زكاة أموالهم.

وقال السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال: هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنـزل الزكاة.

وقال جُوَيْبر، عن الضحاك: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نـزلت فرائض الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات المُثْبَتَات.

وقال قتادة: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها.

واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم: أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مُؤَدّين، زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته، من أهل أو عيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.

قلت: كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت" . والأحاديث في هذا كثيرة.

وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى:

لهـا حـارس لا يـبرحُ الدهـرَ بَيْتَها

وإن ذُبحَـتْ صـلى عليهـا وزَمْزَمـا


وقال أيضًا
وقابلهـــا الــريح فــي دَنّهــا

وصــلى عــلى دَنّهــا وارتسـم


أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك.

وقال الآخر -وهو الأعشى أيضًا-:

تقـــول بنتـي وقـد قَرَّبتُ مرتحلا

يـا رب جـنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا

عليـكِ مثـلُ الـذي صليتِ فاغتمضي

نومـا فـإن لِجَنب المـرء مُضْطجعـا


يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها [المشروعة] المشهورة.

وقال ابن جرير: وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه من حاجته .

[وقيل: هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند الركوع، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفا عجب الذنب، ومنه سمي المصلي؛ وهو الثاني للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر، وقيل: هي مشتقة من الصلى، وهو الملازمة للشيء من قوله: لا يَصْلاهَا أي: يلزمها ويدوم فيها إِلا الأَشْقَى [الليل: 15] وقيل: مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم] .

وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه، إن شاء الله.


وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

قال ابن عباس: ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) أي: بالبعث والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان.

وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا: هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير:

أحدهما : أن الموصوفين أوّلا هم الموصوفون ثانيًا، وهم كل مؤمن، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة.

والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى: 1-5] وكما قال الشاعر:

إلــى الملـك القَـرْم وابـن الهُمـام

وليــثِ الكتيبــة فــي المُزْدَحَـم


فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد.

والثالث: أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب، والموصوفون ثانيا بقوله: ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) الآية مؤمنو أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره، عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، واختاره ابن جرير، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ الآية [آل عمران: 199]، وبقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 52-54]. وثبت في الصحيحين، من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" .

وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: منافق وكافر، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي.

قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري، عن رجل، عن مجاهد. ورواه غير واحد، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي، وكتابي من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به مَنْ قبله من الرسل والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ الآية [النساء: 136]. وقال: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ الآية [العنكبوت:46] . وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ [النساء: 47] وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة: 68] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ الآية [البقرة: 285] وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء: 152] وغير ذلك من الآيات الدالة على أمْر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان، بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، ولكن قولوا: آمنا بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم" ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية، فغيرهم [قد] يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم.

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)


يقول الله تعالى: ( أُولَئِكَ ) أي: المتصفون بما تقدم: من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنـزل الله إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات.

( عَلَى هُدًى ) أي: نور وبيان وبصيرة من الله تعالى. ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي: في الدنيا والآخرة.


وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) أي: على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم، ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.

وقال ابن جرير: وأما معنى قوله: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم، وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم وتأويل قوله: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي المُنْجِحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب .

وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، على ما تقدم من الخلاف. [قال] وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ منقطعا مما قبله، وأن يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره ( [ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ] أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب، لما رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم. وقد نقل هذا عن مجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، رحمهم الله.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: يا رسول الله، إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس، أو كما قال. قال: فقال: "أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله تعالى : ( الْمُفْلِحُونَ ) هؤلاء أهل الجنة". قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إلى قوله: عَظِيمٌ هؤلاء أهل النار". قالوا: لسنا هم يا رسول الله. قال: "أجل"
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:49 am

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)

يقول تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: غَطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 96، 97] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ الآية [البقرة: 145] أي: إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له، ومن أضلَّه فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلّغهم الرّسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِدَنَّك ذلك؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40]، و إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود: 12] .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: بما أنـزل إليك، وإن قالوا: إنَّا قد آمنا بما جاءنا قبلك ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟!

وقال أبو جعفر الرّازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: نـزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين قال الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا [إبراهيم: 28، 29] .

والمعنى الذي ذكرناه أوّلا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة، أظهر، ويفسر ببقية الآيات التي في معناها، والله أعلم.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا، فقال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل: يا رسول الله، إنَّا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نيأس، فقال: "ألا أخبركم"، ثم قال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) هؤلاء أهل النار". قالوا: لسنا منهم يا رسول الله؟ قال: "أجل" .


[وقوله: ( لا يُؤْمِنُونَ ) محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي هم كفار في كلا الحالين؛ فلهذا أكد ذلك بقوله: ( لا يُؤْمِنُونَ ) ويحتمل أن يكون ( لا يُؤْمِنُونَ ) خبرًا لأن تقديره: إن الذين كفروا لا يؤمنون، ويكون قوله: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ) جملة معترضة، والله أعلم] .

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

قال السّدي: ( خَتَمَ اللَّهُ ) أي: طبع الله، وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه؛ فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.

وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) قال: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم، قال ابن جريج: الختم على القلب والسمع.

قال ابن جُرَيْج: وحدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد ذلك كله.

وقال الأعمش: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه -يعني: الكف-فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمَّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضَمّ. وقال بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضُمّ. وقال بأصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال : يطبع عليه بطابع.

وقال مجاهد: كانوا يرون أن ذلك: الرين.

ورواه ابن جرير: عن أبي كُرَيْب، عن وَكِيع، عن الأعمش، عن مجاهد، بنحوه.

وقال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما معنى قوله: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) إخبار من الله عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلانًا لأصَمّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرًا.

قال: وهذا لا يصح؛ لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.

(قلت): وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جدًا، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده -تعالى الله عنه في اعتقاده-ولو فهم قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وقوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاءً وفاقًا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط علمًا بهذا لما قال ما قال، والله أعلم.

قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ وذكر حديث تقليب القلوب: "ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك"، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا" الحديث.

قال والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا به محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ابن عَجْلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمSadإن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونـزعَ واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ) .

وهذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي، عن قتيبة، عن الليث بن سعد، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم، ثلاثتهم عن محمد بن عجلان، به .

وقال الترمذي: حسن صحيح.

ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحَلّه رباطه [عنها] .

واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ، وقوله ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة -وهي الغطاء-تكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون، ويقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون.

قال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) والغشاوة على أبصارهم.

وقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، يعني ابن داود، وهو سُنَيد، حدثني حجاج، وهو ابن محمد الأعور، حدثني ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى : فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى: 24]، وقال وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية: 23] .


قال ابن جرير: ومن نصب غشاوة من قوله تعالى: ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل، تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع، على محل ( وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) كقوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة: 22]، وقول الشاعر:

عَلَفْتُهـــا تبنًــا ومــاء بــاردًا

حــتى شَــتتْ هَمَّالَــةً عيناهــا


وقال الآخر:

ورأيــت زَوْجَــك فــي الـوغى

متقلِّــــدًا ســــيفًا ورُمْحًـــا


تقديره: وسقيتها ماء باردًا، ومعتَقِلا رمحًا.

لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق، كما أنـزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور، تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضًا، فقال تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (Cool يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه، إن شاء الله تعالى، وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلَهُ، وسِرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مَغِيبه.

وإنما نـزلت صفات المنافقين في السّور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها، وهو في الباطن مؤمن، فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج، وبنو النَّضِير، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس، فلمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سَلام، رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان، عليه الصلاة والسلام، وَادَعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته، وأعلى الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد تَوَجَّه فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثَمّ وُجِد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرَهًا، بل يهاجر ويترك ماله، وولده، وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة.

قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكْرِمة، أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) يعني: المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم.

وكذا فسَّرها بالمنافقين أبو العالية، والحسن، وقتادة، والسدي.

ولهذا نبَّه الله، سبحانه، على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهل الفجور خَيْر، فقال تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) أي: يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر، كما قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] أي: إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط، لا في نفس الأمر؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها؛ كما أكَّدوا قولهم: ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ) وليس الأمر كذلك، كما أكْذبهم الله في شهادتهم، وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم، بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1]، وبقوله ( وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ )

وقوله تعالى: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة: 18]؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) يقول: وما يَغُرُّون بصنيعهم ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142].

ومن القراء من قرأ: "وَمَا يُخَادِعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ"، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد.


قال ابن جرير: فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟

قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية، لينجو مما هو له خائف، مخادعا، فكذلك المنافق، سمي مخادعا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر، مستبطن، وذلك من فعلِه -وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا-فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها، ويُسقيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومُجرّعها بها كأس عذابها، ومُزيرُها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به، فذلك خديعته نفسه، ظنًا منه -مع إساءته إليها في أمر معادها-أنه إليها محسن، كما قال تعالى: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم عليها ربهم بكفرهم، وشكهم وتكذيبهم، غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .

وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا عليّ بن المبارك، فيما كتب إليّ، حدثنا زيد بن المبارك، حدثنا محمد بن ثور، عن ابن جُرَيْج، في قوله تعالى: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ ) قال: يظهرون "لا إله إلا الله" يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك .

وقال سعيد، عن قتادة: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) نعت المنافق عند كثير: خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها.

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

قال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال: شَكٌّ، ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ) قال: شكًّا.

وقال [محمد] بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس [في قوله] : ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال: شك.


وكذلك قال مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وأبو العالية، والرّبيع بن أنس، وقتادة.

وعن عكرمة، وطاوس: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يعني: الرياء.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال: نفاق ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ) قال: نفاقا، وهذا كالأول.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال: هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد، وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ) قال: زادهم رجسًا، وقرأ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 124، 125] قال: شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم.

وهذا الذي قاله عبد الرحمن، رحمه الله، حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17].

وقوله ( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) وقرئ: "يكذّبون"، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا. وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه، عليه السلام، عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين: أنه قال لعمر: "أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون: إن محمدًا يقتل أصحابه، قال القرطبي: وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم. قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون. ومنها: ما قال مالك، رحمه الله: إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه.

قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، قال: ومنها ما قال الشافعي: إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجبّ ما قبله. ويؤيد هذا قوله، عليه الصلاة والسلام، في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، عز وجل" . ومعنى هذا: أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا، وكونه كان خليط أهل الإيمان يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ الآية [الحديد: 14]، فهم يخالطونهم في بعض المحشر، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: 54] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث، ومنها ما قاله بعضهم: أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده، عليه السلام، بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون، قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم. قلت: وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا. أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام.

(تنبيه) قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة. ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم.

فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ الآية، وقال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات [صلى عليه] صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: "إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه" وفي رواية في الصحيح "إني خيرت فاخترت" وفي رواية "لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت".

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة الطيب الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) أما لا تفسدوا في الأرض، قال: الفساد هو الكفر، والعمل بالمعصية.

وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) قال: يعني: لا تعصُوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة.

وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة.

وقال ابن جُرَيْج، عن مجاهد: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) قال: إذا ركبوا معصية الله، فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:50 am


وقد قال وَكِيع، وعيسى بن يونس، وعثَّام بن علي، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن سلمان الفارسي: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) قال سلمان: لم يجئ أهل هذه الآية بعد.

وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم، حدثنا عبد الرحمن بن شَريك، حدثني أبي، عن الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلمان، في هذه الآية، قال: ما جاء هؤلاء بَعْدُ .

قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد .

قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكّهم في دينه الذي لا يُقْبَلُ من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها .

وهذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 73] فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء: 144] ثم قال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء: 145] فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حالته الأولى لكان شرّه أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح؛ ولهذا قال تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، كما قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله: ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادًا.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)

يقول [الله] تعالى: وإذا قيل للمنافقين: ( آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ) أي: كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك، مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يعنون -لعنهم الله-أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنـزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!!

والسفهاء: جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم [والحلماء جمع حليم] والسفيه: هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار؛ ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء، في قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5] قال عامة علماء السلف: هم النساء والصبيان.

وقد تولى الله، سبحانه، جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ) فأكد وحصر السفاهة فيهم.

( وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

يقول [الله] تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: ( آمَنَّا ) أي: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم. فضمن ( خَلَوْا ) معنى انصرفوا؛ لتعديته بإلى، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به. ومنهم من قال: "إلى" هنا بمعنى "مع"، والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير.

وقال السدي عن أبي مالك: ( خَلَوْا ) يعني: مضوا، و ( شَيَاطِينِهِمْ ) يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة عن ابن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) يعني: هم رؤوسهم من الكفر.

وقال الضحاك عن ابن عباس: وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم.

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن

عباس: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.

وقال مجاهد: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين.

وقال قتادة: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) قال: إلى رؤوسهم، وقادتهم في الشرك، والشر.

وبنحو ذلك فسَّره أبو مالك، وأبو العالية والسدي، والرّبيع بن أنس.

قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، وتكون الشياطين من الإنس والجن، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112] .

وفي المسند عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن". فقلت: يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: "نعم" .

وقوله تعالى: ( قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ) قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم عليه ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وكذلك قال الرّبيع بن أنس، وقتادة.

وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم: ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )

وقال ابن جرير: أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة، في قوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ الآية [الحديد: 13]، وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178]. قال: فهذا وما أشبهه، من استهزاء الله، تعالى ذكره، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول، ومتأول هذا التأويل.

قال: وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.

قال: وقال آخرون: هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك. ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا: وكذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 54] و ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى: أن المكر والهُزْء حَاق بهم.

وقال آخرون: قوله: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) وقوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142]، وقوله فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] و نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] وما أشبه ذلك، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جَزَاءَ الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة: 194]، فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما.

قال: وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.

قال: وقال آخرون: إن معنى ذلك: أنّ الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا: إنا معكم على دينكم، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما يظهر لهم -من قولنا لهم: صدقنا بمحمد، عليه السلام، وما جاء به مستهزئون؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني من العذاب والنكال .

ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله، عز وجل، بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك.

قال: وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) قال: يسخر بهم للنقمة منهم.

وقوله تعالى: ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال السدي: عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة [قالوا] يَمدهم: يملي لهم.

وقال مجاهد: يزيدهم.

قال ابن جرير: والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم، كما قال: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .


والطغيان: هو المجاوزة في الشيء. كما قال: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة: 11]، وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) في كفرهم يترددون.

وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية، وقتادة، والرّبيع بن أنس، ومجاهد، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد: في كفرهم وضلالتهم.

قال ابن جرير: والعَمَه: الضلال، يقال: عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا: إذا ضل.

قال: وقوله: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) في ضلالهم وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه، وعَلاهم رجْسه، يترددون [حيارى] ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدًا، ولا يهتدون سبيلا.

[وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في القلب -أيضا-: قال الله تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ويقال: عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه، وجمعه عمّه، وذهبت إبله العمهاء: إذا لم يدر أين ذهبت .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.

وقال [محمد] بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) أي: الكفر بالإيمان.

وقال مجاهد: آمنوا ثمّ كفروا.

وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى [أي: الكفر بالإيمان] . وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17] .

وحاصل قول المفسرين فيما تقدم: أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المنافقون: 3]، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم، فإنهم أنواع وأقسام؛ ولهذا قال تعالى: ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، ( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) أي: راشدين في صنيعهم ذلك.

قال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) قد -والله-رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة، بمثله سواء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:52 am

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)

[يقال: مثل ومثل ومثيل -أيضا-والجمع أمثال، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] .

وتقرير هذا المثل: أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم.

وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال: والتشبيه هاهنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.

وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] .

والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير، رحمه الله، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 3]؛ فلهذا وجه [ابن جرير] هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة.

قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28] وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5]، وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا. وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه. وقال آخرون: الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر:

وإن الــذي حـانت بفلـج دمـاؤهم

هـم القـوم كـل القـوم يـا أم خـالد


قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام، وقوله تعالى: ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق، ( لا يُبْصِرُونَ ) لا يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك ( صُمٌّ ) لا يسمعون خيرا ( بُكْمٌ ) لا يتكلمون بما ينفعهم ( عُمْيٌ ) في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.

ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه:

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ) زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و[عرف] الخير والشر، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر.

وقال مجاهد: ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ) أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى.

وقال عطاء الخرساني في قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) قال: هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثم يدركه عمى القلب.

وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة، والحسن والسدي، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.

وقال العوفي، عن ابن عباس، في هذه الآية، قال: أما النور: فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأمَّا الظلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى، ثمّ نـزع منهم، فعتوا بعد ذلك.

وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلا الله، أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة.

وقال الضحاك [في قوله] ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ) فهي لا إله إلا الله؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.

وقال سعيد، عن قتادة في هذه الآية: إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله .

( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) يقول: في عذاب إذا ماتوا.

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) أي يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم الله في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.

وقال السدي في تفسيره بسنده: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) فكانت الظلمة نفاقهم.

وقال الحسن البصري: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول: لا إله إلا الله .

( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) قال السدي بسنده: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) فهم خرس عمي .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن دعامة.

( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذلك قال الرّبيع بن أنس.

وقال السدي بسنده: ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) إلى الإسلام.

وقال قتادة: ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) أي لا يتوبون ولا هم يذكرون.

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ( كَصَيِّبٍ ) والصيب: المطر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصحابة، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة، وعطية العَوْفِي، وعطاء الخراساني، والسُّدي، والرّبيع بن أنس.

وقال الضحاك: هو السحاب.

والأشهر هو المطر نـزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق. ( وَرَعْدٌ ) وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [هُمُ الْعَدُوُّ] [المنافقون: 4] وقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة: 56، 57].

والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان؛ ولهذا قال: ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) أي: ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأن الله محيط [بهم] بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: 17-20] .

[والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تنـزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم صاعقة، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة، ونقل عن الحسن البصري أنه: قرأ "من الصواقع حذر الموت" بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النجم:

يحـــكوك بالمثقولــة القــواطع

شــفـق البرق عــن الصـواقـع


قال النحاس: وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة, حكى ذلك القرطبي في تفسيره ] .

ثم قال: ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) أي: لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) يقول: يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات المنافقين.

وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) أي لشدة ضوء الحق، ( كلما أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت قلوبَهم فوقفوا حائرين.


وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ) يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ] الآية [الحج: 11].

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر ( قَامُوا ) أي: متحيرين.

وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده، عن الصحابة وهو أصح وأظهر. والله أعلم.

وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطْفَأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى. ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين، الذين قال تعالى فيهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد: 13] وقال في حق المؤمنين: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ الآية [الحديد: 12]، وقال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8] .

ذكر الحديث الوارد في ذلك:

قال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الآية [الحديد: 12]، ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، أو بين صنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه". رواه ابن جرير.

ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر القطان، عن قتادة، بنحوه.

وهذا كما قال المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويَقِد مرة.


وهكذا رواه ابن جرير، عن ابن مُثَنَّى، عن ابن إدريس، عن أبيه، عن المنهال.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي حدثنا ابن إدريس، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [التحريم: 8] قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.

وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني، حدثنا عُتْبَةُ بن اليقظان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا.

وقال الضحاك بن مزاحم: يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورًا؛ فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا .

فإذا تقرر هذا صار الناس أقسامًا: مؤمنون خُلّص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة، وكفار خلص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان: خلص، وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لُمَعٌ من الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالا من الذين قبلهم.

وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور، من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور، بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دُرّي، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله.

ثم ضرب مثل العُبّاد من الكفار، الذين يعتقدون أنهم على شيء، وليسوا على شيء، وهم أصحاب الجهل المركب، في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا الآية [النور: 39].

ثم ضرب مثل الكفار الجُهَّال الجَهْلَ البسيط، وهم الذين قال [الله] فيهم: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين: داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3] وقال بعده: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج: 8] وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، إلى قسمين: سابقون وهم المقربون، وأصحاب يمين وهم الأبرار.

فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات: أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وأن المنافقين -أيضًا-صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها: من إذا حَدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" .

استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق. إما عَمَلي لهذا الحديث، أو اعتقادي، كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء، كما تقدم، وكما سيأتي، إن شاء الله. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية يعني شيبان، عن ليث، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلوب أربعة: قلب أجرد، فيه مثل السراج يُزْهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مُصَفَّح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومَثَل الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدّها القيح والدم، فأي المدّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" . وهذا إسناد جيد حسن.

وقوله: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) قال: لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته.

( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) قال ابن عباس أي إنّ الله على كل ما أراد بعباده من نقمة، أو عفو، قدير.

وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ؛ لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، و [أنه] على إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى ( قَدِيرٌ ) قادر، كما أن معنى ( عَلِيمٌ ) عالم.


[وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون "أو" في قوله تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ) بمعنى الواو، كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24]، أو تكون للتخبير، أي: اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا، قاله القرطبي. أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري: أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.

قلت: وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة -ومنهم -ومنهم -ومنهم -يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم، والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ إلى أن قال: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ الآية [النور: 39، 40]، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشا، أي: مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، ( وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 32] وأنـزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا-في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد؛ رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن. ومنْ أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [غافر: 64] ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره؛ ولهذا قال: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو خلقك" الحديث . وكذا حديث معاذ: "أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا" الحديث وفي الحديث الآخر: "لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله، ثم شاء فلان" .

وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش، عن الطفيل بن سَخْبَرَة، أخي عائشة أم المؤمنين لأمها، قال: رأيت فيما يرى النائم، كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عُزَير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. قال: ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "هل أخبرت بها أحدًا؟" فقلت: نعم. فقام، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فإن طُفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده". هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة، به . وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر، عن عبد الملك بن عمير به، بنحوه .

وقال سفيان بن سعيد الثوري، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال: "أجعلتني لله ندا ؟ قل: ما شاء الله وحده". رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس، عن الأجلح، به .

وهذا كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، أي: وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم.

وبه عن ابن عباس: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال قتادة.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، حدثنا أبي عمرو، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله، عز وجل ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ) قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئتَ، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها "فلان". هذا كله به شرك.

وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا". وفي الحديث الآخر: "نعم القوم أنتم، لولا أنكم تنددون، تقولون: ما شاء الله، وشاء فلان".

قال أبو العالية: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) أي عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة، والسُّدي، وأبو مالك: وإسماعيل بن أبي خالد.

وقال مجاهد: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.

ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة:

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف، وكان يُعَد من البُدَلاء، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل، أمر يحيى بن زكريا، عليه السلام، بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكان يبطئ بها، فقال له عيسى، عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن. فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي" . قال: "فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا، فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك. وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك. وأمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرًا؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله".

قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه من خرج من الجماعة قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم". قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى ؟ فقال: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل: المسلمين المؤمنين عباد الله" .

هذا حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله: "وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا".

وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال: وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله، إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟

وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع!! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.

وعن الشافعي: أنه سئل عن وجود الصانع، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد.

وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة.

وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:

تــأمل فـي نبــات الأرض وانظـر

إلــى آثـار مـا صنـع المليـــك

عيــــون مـن لجـين شـاخصات

بــأحداق هــي الــذهب السـبيـك

عـلى قضـب الزبرجـد شـاهــدات

بــأن اللــه ليس لــه شـريــك


وقال ابن المعتز:

فيــا عجبًـا كـيف يعصـى الإلـه

أم كـــيف يجحـــده الجـــاحد

وفــي كــل شـيء لــه آيــة

تـــدل عــلى أنـــه واحـــد


وقال آخرون: من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 27، 28] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا.

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا للكافرين: ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نـزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ ) من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك.


قال ابن عباس: ( شُهَدَاءَكُمْ ) أعوانكم [أي: قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك] .

وقال السدي، عن أبي مالك: شركاءكم [أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم] .

وقال مجاهد: ( وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ) قال: ناس يشهدون به [يعني: حكام الفصحاء] .

وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [القصص: 49] وقال في سورة سبحان: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] وقال في سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [هود: 13]، وقال في سورة يونس: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 37، 38] وكل هذه الآيات مكية.

ثم تحداهم [الله تعالى] بذلك -أيضًا-في المدينة، فقال في هذه الآية: ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) أي: [في] شك ( مِمَّا نـزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ) يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم. ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) يعني: من مثل [هذا] القرآن؛ قاله مجاهد وقتادة، واختاره ابن جرير. بدليل قوله: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: 13] وقوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88] وقال بعضهم: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: من رجل أمي مثله. والصحيح الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم، مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) "ولن": لنفي التأبيد أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا. وهذه -أيضًا-معجزة أخرى، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وَأنَّى يَتَأتَّى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!

ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.

وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] وقال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف: 71]، وقال في الترهيب: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ا, لْبَرِّ [الإسراء: 68]، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 16، 17] وقال في الزجر: فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40]، وقال في الوعظ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205 -207] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه. ولهذا قال تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ الآية [الأعراف: 157]، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.

ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعْطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" لفظ مسلم. وقوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيًا" أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة [عند كثير من العلماء] والله أعلم. وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر، ولله الحمد والمنة.

[وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية، فقال: إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته، فقد حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته، كما قررنا، إلا أنها تصلح على سبيل التنـزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر و إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ] .

وقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) أما الوَقُود، بفتح الواو، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15] وقال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] .

والمراد بالحجارة هاهنا: هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت، أجارنا الله منها.

قال عبد الملك بن ميسرة الزرّاد عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله تعالى: ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) قال: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا، يعدها للكافرين. رواه ابن جرير، وهذا لفظه. وابن أبي حاتم، والحاكم في مستدركه وقال: على شرط الشيخين .

وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود، يعذبون به مع النار.

وقال مجاهد: حجارة من كبريت أنتن من الجيفة. وقال أبو جعفر محمد بن علي: [هي] حجارة من كبريت. وقال ابن جريج: حجارة من كبريت أسود في النار، وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة وأعظم.

[وقيل: المراد بها: حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية [الأنبياء: 98]، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول؛ قال: لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى، وهذا الذي قاله ليس بقوي،؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة -أيضا-مشاهد، وهذا الجص يكون أحجارًا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها. وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97]. وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال: ليكون ذلك أشد عذابًا لأهلها، قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف ثم قال القرطبي: وقد فسر بمعنيين، أحدهما: أن كل من آذى الناس دخل النار ، والآخر: كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك] .

وقوله تعالى: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) الأظهر أنّ الضمير في ( أُعِدَّتْ ) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده على الحجارة، كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما متلازمان.

و ( أُعِدَّتْ ) أي: أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال [محمد] بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) أي: لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.

وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله: ( أُعِدَّتْ ) أي: أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها: "تحاجت الجنة والنار
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:54 am

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عَطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صَدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن "مثاني" على أصح أقوال العلماء، كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبعه بذكر الكفر، أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء، أو عكسه. وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه، كما سنوضحه إن شاء الله؛ فلهذا قال تعالى: ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) فوصفها بأنها تجري من تحتها "< 1-204 >" الأنهار، كما وصف النار بأن وقودها الناس والحجارة، ومعنى ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: أن أنهارها تجري من غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة بينهما، وطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله [وكرمه] إنه هو البر الرحيم.

وقال ابن أبي حاتم: قرئ على الربيع بن سليمان: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن ثوبان، عن عطاء بن قرّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهار الجنة تُفَجَّر من تحت تلال -أو من تحت جبال-المسك" .

وقال أيضا: حدثنا أبو سعيد، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.

وقوله تعالى: ( كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرّة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في [دار] الدنيا.

وهكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ونصره ابن جرير.

وقال عكرمة: ( قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ) قال: معناه: مثل الذي كان بالأمس، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد: يقولون: ما أشبهه به.

قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا لشدة مشابهة بعضه بعضًا، لقوله تعالى: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال سُنَيْد بن داود: حدثنا شيخ من أهل المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء، فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أوتينا به من قبل. فتقول الملائكة: كُلْ، فاللون واحد، والطعم مختلف.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عامر بن يَسَاف، عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفا به، فيقول لهم الولدان: كلوا، فإن اللون واحد، والطعم مختلف. وهو قول الله تعالى: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا )

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال: يشبه "< 1-205 >" بعضه بعضًا، ويختلف في الطعم.

وقال ابن أبي حاتم: ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك.

وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) يعني: في اللون والمرأى، وليس يشتبه في الطعم.

وهذا اختيار ابن جرير.

وقال عكرمة: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب.

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي ظِبْيان، عن ابن عباس، لا يشبه شَيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء، وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. رواه ابن جرير، من رواية الثوري، وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش، به.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وأتوا به متشابها، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم.

وقوله تعالى: ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى.

وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد.

وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه: لا حيض ولا كلف. وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك.

وقال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: المطهرة التي لا تحيض. قال: وكذلك خلقت حواء، عليها السلام، حتى عصت، فلما عصت قال الله تعالى: إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة. وهذا غريب.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثني جعفر بن محمد بن حرب، وأحمد بن محمد الجُوري قالا حدثنا محمد بن عبيد الكندي، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البَزيعيّ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) قال: "من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق" .

هذا حديث غريب. وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن محمد بن يعقوب، عن الحسن بن علي بن عفان، عن محمد بن عبيد، به، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

"< 1-206 >"

وهذا الذي ادعاه فيه نظر؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البُسْتي: لا يجوز الاحتجاج به .

قلت: والأظهر أن هذا من كلام قتادة، كما تقدم، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) هذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم، بر رحيم.

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة: 17] وقوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة: 19] الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنـزل الله هذه الآية إلى قوله: ( هُمُ الْخَاسِرُونَ )

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله [تعالى هذه الآية] ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) .

وقال سعيد، عن قتادة : أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما، قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا )

قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية، وليس كذلك، وعبارة رواية سعيد، عن قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جُرَيج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة.

وقال ابن أبي حاتم: روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا؛ إذ "< 1-207 >" البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله تعالى عند ذلك، ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 44] .

هكذا رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، بنحوه، فالله أعلم.

فهذا اختلافهم في سبب النـزول، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السُّدي؛ لأنه أمس بالسورة، وهو مناسب، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلا ما، أي: أيّ مثل كان، بأي شيء كان، صغيرًا كان أو كبيرًا.

و "ما" هاهنا للتقليل وتكون ( بَعُوضَةً ) منصوبة على البدل، كما تقول: لأضربن ضربًا ما، فيصدق بأدنى شيء [أو تكون "ما" نكرة موصوفة ببعوضة] . واختار ابن جرير أن ما موصولة، و ( بَعُوضَةً ) معربة بإعرابها، قال: وذلك سائغ في كلام العرب، أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة، ونكرة أخرى، كما قال حسان بن ثابت:

وَكَــفَى بِنَا فَضْـلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا

حُــب النَّبِيِّ مُحَمَّـدٍ إيَّانَـا


قال: ويجوز أن تكون ( بَعُوضَةً ) منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها.

[وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورويت "بعوضة" بالرفع، قال ابن جني: وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله: تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الأنعام: 154] أي: على الذي أحسن هو أحسن، وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي: يعني بالذي هو قائل لك شيئًا] .

وقوله: ( فَمَا فَوْقَهَا ) فيه قولان: أحدهما: فما دونها في الصغر، والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح، فيقول السامع : نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت. وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة، قال الرازي: وأكثر المحققين، وفي الحديث: "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" . والثاني: فما فوقها: فما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة. وهذا [قول قتادة بن دعامة و] اختيار ابن جرير. "< 1-208 >" [ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة، رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" ] .

فأخبر أنه لا يستصغر شيئًا يَضْرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما [لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من] ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73]، وقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 41] وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 24-27]، وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا] الآية [النحل: 75]، ثم قال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ] الآية [النحل: 76]، كما قال: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ الآية [الروم: 28]. وقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ] الآية [الزمر: 29]، وقد قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] وفي القرآن أمثال كثيرة.

قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ

وقال مجاهد قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها.

وقال قتادة: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) أي: يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه من عند الله.

وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك.

وقال أبو العالية: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) يعني: هذا المثل: ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا ) كما قال في سورة المدثر: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ [المدثر: 31]، "< 1-209 >" وكذلك قال هاهنا: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ )

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ) يعني: المنافقين، ( وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) يعني المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به ( وَيَهْدِي بِهِ ) يعني بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) قال: هم المنافقون .

وقال أبو العالية: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) قال: هم أهل النفاق. وكذا قال الربيع بن أنس.

وقال ابن جريج عن مجاهد، عن ابن عباس: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به.

وقال قتادة: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ) فسقوا، فأضلهم الله على فسقهم.

وقال ابن أبي حاتم: حُدّثتُ عن إسحاق بن سليمان، عن أبي سِنان، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، عن سعد ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ) يعني الخوارج.

وقال شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، قال: سألت أبي فقلت: قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) إلى آخر الآية، فقال: هم الحرورية. وهذا الإسناد إن صح عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، فهو تفسير على المعنى، لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج، الذين خرجوا على عليٍّ بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نـزول الآية، وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل؛ لأنهم سموا خوارج لخروجهم على طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام.

والفاسق في اللغة: هو الخارج عن الطاعة أيضًا. وتقول العرب: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها ؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة، لخروجها عن جُحْرها للفساد. وثبت في الصحيحين، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يُقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" .

"< 1-210 >"

فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش، والمراد من الآية الفاسق الكافر، والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )

وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ الآيات، إلى أن قال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 19-25] .

وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.

وقال آخرون: بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به، وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك [عن] الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وقول مقاتل بن حيان.

وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق. وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان نحو هذا، وهو حسن، [وإليه مال الزمخشري، فإنه قال: فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف: 172] إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنـزلة عليهم لقوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] .

وقال آخرون: العهد الذي ذكره [الله] تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من "< 1-211 >" صلب آدم الذي وصف في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [شَهِدْنَا] الآيتين [الأعراف: 172، 173] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به. وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) إلى قوله: ( الْخَاسِرُونَ ) قال: هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهْرَة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظَّهْرَةُ عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا.

وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا. وقال السدي في تفسيره بإسناده، قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) قال: هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.

وقوله: ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد: 22] ورجحه ابن جرير. وقيل: المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه.

وقال مقاتل بن حيان في قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 25] .

وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب.

وقال ابن جرير في قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) الخاسرون: جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم [و] حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا، كما قال جرير بن عطية
إن سَــلِيطًا فــي الخَسَــارِ إنَّـه

أولادُ قَــــومٍ خُـــلقُوا أقِنَّـــه


"< 1-212 >"

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

يقول تعالى محتجًا على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف في عباده: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ) أي: كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) أي: قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى الوجود، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور: 35، 36]، وقال هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان: 1] والآيات في هذا كثيرة.

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] قال: هي التي في البقرة: ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ )

وقال ابن جُريج ، عن عطاء، عن ابن عباس: ( كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) أمواتا في أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم. قال: وهي مثل قوله: [رَبَّنَا] أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ .

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قال: كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ )

وهكذا روي عن السدي بسنده، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة-وعن أبي العالية والحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نَحْوُ ذلك.

وقال الثوري، عن السدي عن أبي صالح: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) قال: يحييكم في القبر ، ثم يميتكم.

وقال ابن جرير عن يونس، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقول الله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ

"< 1-213 >"

وهذا غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس، وأولئك الجماعة من التابعين، وهو كقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 26] .

[وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس، كما قال في الأصنام: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل: 21]، وقال وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] .

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض، فقال: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) أي: قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا تَضَمَّن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بإلى ( فَسَوَّاهُنَّ ) أي: فخلق السماء سبعًا، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: ( فَسَوَّاهُنَّ ) . ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق . كما قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك: 14] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 9-12] .

ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات: 27-32] فقد قيل: إن ( ثُمَّ ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على الفعل، كما قال الشاعر:

قــل لمــن سـاد ثـم سـاد أبـوه

ثــم قــد سـاد قبـل ذلـك جـده


وقيل: إن الدَّحْىَ كان بعد خلق السماوات، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.

"< 1-214 >"

وقد قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك -وعن أبي صالح عن ابن عباس-وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ) قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: ن وَالْقَلَمِ والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر مَلَك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان -ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فَقَرّت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15] . وخلق الجبال فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا [فصلت: 9، 10]. يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت: 10] يقول: من سأل فهكذا الأمر. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت: 11] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت: 12] قال: خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البَرَد وما لا نعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظًا تُحْفَظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، فذلك حين يقول: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] ويقول كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء: 30] .

وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عَجَل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.

وقال مجاهد في قوله: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ) قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ "< 1-215 >" ( فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين، يعني بعضهن تحت بعض.

وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 9-12] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نـزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات: 27-31] قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض. وفي صحيح البخاري : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [النازعات: 30-32] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير -أيضًا-من رواية ابن جُرَيج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل" .

وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:56 am


وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30)

يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ) أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية [وهو أبو عبيدة] أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة، وأن تقدير الكلام: وقال ربك. ورده ابن جرير.

قال القرطبي: وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج: هذا اجتراء من أبي عبيدة.

( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) أي: قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [الأنعام: 165] وقال وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل: 62]. وقال وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف: 60]. وقال فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم: 59]. [وقرئ في الشاذ: "إني جاعل في الأرض خليقة" حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي] . وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم، عليه السلام، فقط، كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون [أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم، قاله القرطبي] أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.

وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا. قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا ) الآية] وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء، والصالحون والعباد، والزهاد والأولياء، والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم.

وقد ثبت في الصحيح : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل" فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) وقيل: معنى قوله جوابًا لهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب لقولهم: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) فقال: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل: بل تضمن قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها فخر الدين مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم.

ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه:

قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثنا الحسين قال: حدثني الحجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة، قالوا: قال الله للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قال لهم: إني فاعل. وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك.

وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم، قال : وروي عن قتادة نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم.

( فِي الأرْضِ ) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دُحِيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله: إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة" .

وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مُدْرَج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.

( خَلِيفَةً ) قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.

قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) مني، يخلفني في الحكم بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقه فمن غير خلفائه.

قال ابن جرير: وإنما [كان تأويل الآية على هذا] معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا.

قال: والخليفة الفعيلة من قولك، خلف فلان فلانا في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14]. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خَلَفًا.

قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم.

قال ابن جرير: وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الأرض الجنُّ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم وأسكنه إياها، فلذلك قال: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) .

وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) قال: يعنون [به] بني آدم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله، عز وجل، خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدماء] ؟!

وقد تقدم ما رواه السدي، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم، فقالت الملائكة ذلك. وتقدم آنفا ما رواه الضحاك، عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون .

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) إلى قوله: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 33] قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء بينهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) كما أفسدت الجن ( وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) كما سَفَكُوا.

قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال: قال الله للملائكة: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قال لهم: إني فاعل. فآمنوا بربهم ، فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ؟ ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )

قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلَّمهم.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) كان [الله] أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خَلْق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام الرازي، حدثنا ابن المبارك، عن معروف، يعني ابن خَرّبوذ المكي، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول: السّجِلّ ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما فيه من الأمور، فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلما قال تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) قالا ذلك استطالة على الملائكة.

وهذا أثر غريب. وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر، فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارة توجب رده، والله أعلم. ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السياق.

وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم -أيضًا-حيث قال: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن أبي عَبْد الله، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: إن الملائكة الذين قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) كانوا عشرة آلاف، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم.

وهذا -أيضًا-إسرائيلي منكر كالذي قبله، والله أعلم.

قال ابن جريج: إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ )

وقال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم!؟ فأجابهم ربهم: ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) يعني: أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعا.

قال: وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب خبرنا، مسألة [الملائكة] استخبار منهم، لا على وجه الإنكار، واختاره ابن جرير.

وقال سعيد عن قتادة قوله: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، قال: وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11] .

وقوله تعالى: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: التسبيحُ: التسبيحُ، والتقديس: الصلاة .

وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود-وعن ناس من الصحابة: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال: يقولون: نصلي لك.

وقال مجاهد: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال: نعظمك ونكبرك.


وقال الضحاك: التقديس: التطهير.

وقال محمد بن إسحاق: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) قال: لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه.

وقال ابن جرير: التقديس: هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سُبُّوح قُدُّوس، يعني بقولهم: سُبوح، تنـزيه له، وبقولهم: قدوس، طهارة وتعظيم له. ولذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) ننـزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك ( وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك.

[وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل ؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده" وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحًا في السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" ] .

( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) قال قتادة: فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )

وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب، أو يتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نص عليه الشافعي.

وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يشترط، وقيل: بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما ترك عمر رضي الله عنه، الأمر شورى بين ستة، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف، ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين، وفي هذا نظر، والله أعلم.

ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلا مسلمًا عدلا مجتهدًا بصيرًا سليم الأعضاء خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًا على الصحيح، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الروافض، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان" وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك.

فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: "من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان" . وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام الحرمين، وقالت الكرامية: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة، قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب.

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم [الله] تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا )

وقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا، والدواب، فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس.

وقال الضحاك عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وسماء، وأرض، وسهل، وبحر، وجمل ، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد، عن ابن عباس: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: علمه اسم الصحفة والقِدر، قال: نعم حتى الفسوة والفُسَيَّة .

وقال مجاهد: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) قال: علمه اسم كل دابة، وكل طير، وكل شيء.

وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف: أنه علمه أسماء كل شيء، وقال الربيع في رواية عنه: أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي: أسماء النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم.

واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية؛ لأنه قال: ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) وهذا عبارة عما يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب. كما قال: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور: 45] .

[وقد قرأ عبد الله بن مسعود: "ثم عرضهن" وقرأ أبي بن كعب: "ثم عرضها" أي: السماوات] .

والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها: ذواتها وأفعالها؛ كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفُسَية. يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر؛ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال - وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد، عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر ذنبه فيستحيي؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هُنَاكُم. ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحيي. فيقول: ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكم؛ فيقول: ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُمْ، ويذكر قَتْلَ النفس بغير نفس، فيستحيي من ربه؛ فيقول: ائتوا عيسى عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُم، ائتوا محمدًا عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي، فيُؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسْمَع، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمُنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، وإذا رأيت ربي مثله ، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" .

هكذا ساق البخاري هذا الحديث هاهنا. وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام، وهو ابن أبي عبد الله الدَّسْتُوائي، عن قتادة، به . وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد، وهو ابن أبي عَرُوبَة، عن قتادة . ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام: "فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء"، فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ) يعني: المسميات؛ كما قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال: ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )

وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) ثم عرض الخَلْق على الملائكة.

وقال ابن جريج، عن مجاهد: ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ ) عرض أصحاب الأسماء على الملائكة.

وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج، عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة، عن الحسن -وأبي بكر، عن الحسن وقتادة -قالا علمه اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة.

وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.

وقال الضحاك عن ابن عباس: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة.

وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.

وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله، ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عَرَضْتُه عليكم أيها الملائكة القائلون: أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك

الدماء، من غيرنا أم منا، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم: إني إن جعلتُ خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.

[وقوله] ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) هذا تقديس وتنـزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى، ولهذا قالوا: ( سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) أي: العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التام.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس: سبحان الله، قال: تنـزيه الله نفسه عن السوء. [قال] ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله، قد عرفناها فما سبحان الله؟ فقال له علي: كلمة أحبها الله لنفسه، ورضيها، وأحب أن تقال .

قال: وحدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا النضر بن عربي قال: سأل رجل ميمون بن مِهْرَان عن "سبحان الله"، فقال: اسم يُعَظَّمُ الله به، ويُحَاشَى به من السوء.

وقوله تعالى: ( قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قال زيد بن أسلم. قال: أنت جبريل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل، حتى عدد الأسماء كلها، حتى بلغ الغراب.

وقال مجاهد في قول الله: ( يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ) قال: اسم الحمامة، والغراب، واسم كل شيء.

وروي عن سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، نحو ذلك.

فلما ظهر فضل آدم، عليه السلام، على الملائكة، عليهم السلام، في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما قال [الله] تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وكما قال تعالى إخبارا عن الهدهد أنه قال

لسليمان: أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 25 - 26] .

وقيل في [معنى] قوله تعالى: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) غيرُ ما ذكرناه؛ فروى الضحاك، عن ابن عباس: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قال: يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كَتَم إبليس في نفسه من الكِبْر والاغترار.

وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، قال: قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) فهذا الذي أبدوا ( وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.

وكذلك قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي، والضحاك، والثوري. واختار ذلك ابن جرير.

وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة: هو قولهم: لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه .

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) فكان الذي أبدوا قولهم: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ) وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم، والكرم.

وقال ابن جرير: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته؛ ولذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال: وسَبَقَ من الله لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه قال: ولما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل .

وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك قولُ ابن عباس، وهو أن معنى قوله تعالى: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ) وأعلم -مع علمي غيب السماوات والأرض -ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى عَلَيَّ شيء، سواء عندي سرائركم، وعلانيتكم.

والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا يكتمون ما كان عليه منطويا إبليس من الخلاف على الله في أوامره ، والتكبر عن طاعته.


قال: وصح ذلك كما تقول العرب: قُتِل الجيش وهُزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض، وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ [الحجرات: 4 ] ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم، قال: وكذلك قوله: ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) .

وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم. وقد دل على ذلك أحاديث -أيضا-كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى، عليه السلام: "رَبِّ، أرني آدم الذي أخرجنا ونفسَه من الجنة" ، فلما اجتمع به قال: "أنت آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته". قال... وذكر الحديث كما سيأتي.

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشْر بن عُمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، [وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت قال: وخلق الإنسان من طين] . فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذي يقال لهم: الجنّ -فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في نفسه، فقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد. قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة مجيبين له: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب -واللازب: اللزج الصلب من حمإ مسنون منتن، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد التراب. فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله، فيصلصل، أي فيصوت. قال: فهو قول الله تعالى: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ الرحمن: 14 ] يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس

بمُصْمَت. قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره، ويخرج من فيه. ثم يقول: لست شيئا -للصلصلة-ولشيء ما خلقت، ولئن سُلِّطْتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطْتُ علي لأعْصيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودمًا، فلما انتهت النفخة إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [الإسراء: 11] قال: ضجر لا صبر له على سراء ولا ضراء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: "الحمد لله رب العالمين" بإلهام الله. فقال [الله] له: "يرحمك الله يا آدم ". قال ثم قال [الله] تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات: اسجدوا لآدم. فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر، لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار. فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، خلقتني من نار وخلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطانا رجيما عُقُوبة لمعصيته، ثم عَلَّم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم قالوا: سبحانك، تنـزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، وتبنا إليك لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا تبريا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ يقول: أخبرهم بأسمائهم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ [يقول: أخبرهم] بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ أيها الملائكة خاصة إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ولا يعلم غيري وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ يقول: ما تظهرون وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .

هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر، يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور.

وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن

مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع مُلْكه خازنا، فوقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة. فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه. فقال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا : ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قالوا: ربنا، أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني: من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: رب مني عاذت بك فأعذتُها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه. فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فَصعِد به فَبَلَّ التراب حتى عاد طينا لازبا -واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض -ثم قال للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:71 ، 72 ] فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي، ولم أتكبر أنا عنه. فخلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم فزعا منه إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة. فذلك حين يقول: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ الرحمن : 14 ] ويقول: لأمر ما خُلقت. ودخل من فيه فخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف. لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه، عَطِسَ، فقالت الملائكة: قل: الحمد لله. فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول تعالى: خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [ الأنبياء: 37 ] فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 30، 31 ] أبى واستكبر وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لمن خلقته من طين. قال الله له: اخرج منها فما يكون لك، يعني: ما ينبغي لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ

[الأعراف : 13] والصغار: هو الذل. قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثم عرض الخلق على الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قال الله: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال: قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فهذا الذي أبدوا "وأعلم ما تكتمون" يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.

فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدِّي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مُدْرَج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة. والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء، ويقول: [هو] على شرط البخاري.

والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم؛ لأنه -وإن لم يكن من عُنْصرهم -إلا أنه كان قد تشَبَّه بهم وتوسم بأفعالهم؛ فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفة الأمر. وسنبسط المسألة إن -شاء الله تعالى-عند قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ الكهف: 50 ].

ولهذا قال: محمد بن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا، وأكثرهم علما؛ فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جِنًّا.

وفي رواية عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس -أو مجاهد -عن ابن عباس، أو غيره، بنحوه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد -يعني: ابن العوام -عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل ، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد.

وقال سُنَيْد ، عن حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض.

وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس، سواء.

وقال صالح مولى التَّوْأمة، عن ابن عباس: إن من الملائكة قَبيلا يقال لهم: الجن، وكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى، فمسخه الله شيطانا رجيما. رواه ابن جرير.

وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: كان إبليس , رئيس ملائكة سماء الدنيا.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عدي بن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس. وهذا إسناد صحيح عن الحسن. وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء.

وقال شَهْر بن حَوْشَب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير.

وقال سُنَيْد بن داود: حدثنا هُشَيم، أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس وكان صغيرا، فكان مع الملائكة، فتعبد معها، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس. فلذلك قال تعالى: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: 50 ].

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز، حدثنا أبو عاصم، عن شريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقا، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق خلقا آخر، فقال: "إني خالق بشرا من طين، اسجدوا لآدم. قال: فأبوا. فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم. ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم . وهذا غريب، ولا يكاد يصح إسناده، فإن فيه رجلا مبهما، ومثله لا يحتج به، والله أعلم.

وقال قتادة في قوله: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) فكانت الطاعة لله، والسجدة أكرم الله آدم بها أن أسجد له ملائكته.

وقال في قوله تعالى: ( فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) حسد عدو الله إبليسُ آدمَ، عليه السلام، على ما أعطاه الله من الكرامة، وقال: أنا ناريٌّ وهذا طينيٌّ، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدوُّ الله أن يسجد لآدم، عليه السلام.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا صالح بن حيان، حدثنا عبد الله بن بُرَيدة: قوله تعالى: ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) من الذين أبوا، فأحرقتهم النار.

وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يعني: من العاصين.

وقال السدي: ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد.


وقال محمد بن كعب القُرَظِيُّ: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة، وعمل بعمل الملائكة، فصيره إلى ما أبدى عليه خلقه من الكفر، قال الله تعالى: ( وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )

وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [ يوسف : 100] وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا، قال معاذ : قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: "لا لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ورجحه الرازي، وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78 ] وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكرامًا وإعظامًا واحترامًا وسلامًا، وهي طاعة لله، عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر: أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال.

قلت: وقد ثبت في الصحيح: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر" وقد كان في قلب إبليس من الكبر -والكفر -والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس؛ قال بعض المعربين: وكان من الكافرين أي: وصار من الكافرين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 1:58 am


قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حتى أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية: أنه سينـزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل؛ كما قال أبو العالية: الهُدَى الأنبياء والرسل والبيان، وقال مقاتل بن حَيَّان: الهدى محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: الهدى القرآن. وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعَمّ.

( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ) أي: من أقبل على ما أنـزلت به الكتب وأرسلت به الرسل ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال في سورة طه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه : 123 ] قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه : 124 ] كما قال هاهنا : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي: مخلدون فيها، لا محيد لهم عنها، ولا محيص.

وقد أورد ابن جرير، رحمه الله، هاهنا حديثا ساقه من طريقين، عن أبي مَسْلَمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطْعَة عن أبي سعيد -واسمه سعد بن مالك بن سِنَان الخُدْري-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، لكن أقواماً أصابتهم النار بخطاياهم، أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحماً أذنَ في الشفاعة". وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به .

[وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير، كما تقول: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، والصحيح الأول، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه] .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب، عليه السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا. يا ابن الشجاع، بارز الأبطال، يا ابن العالم، اطلب العلم ونحو ذلك.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء: 3] فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حَوشب، قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟". قالوا: اللهم نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد " وقال الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس؛ أن إسرائيل كقولك: عبد الله.

وقوله تعالى: ( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سِوَى ذلك، فَجَّر لهم الحجر، وأنـزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون.


وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنـزل عليهم الكتب.

قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 20] يعني في زمانهم.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: ( اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) أي: بلائي عندكم وعند آبائكم لِمَا كان نجاهم به من فرعون وقومه ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) قال: بعهدي الذي أخذت في أَعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم. ( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) أي: أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم.

[وقال الحسن البصري: هو قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ الآية [المائدة: 12]. وقال آخرون: هو الذي أخذه الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غُفر له ذنبه وأدخل الجنة وجعل له أجران. وقد أورد فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم السلام بمحمد صلى الله عليه وسلم] .

وقال أبو العالية: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ) قال: عهده إلى عباده: دينه الإسلام أن يتبعوه.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) قال: أرْض عنكم وأدخلكم الجنة.

وكذا قال السدي، والضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس.

وقوله: ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أي: فاخشون؛ قاله أبو العالية، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة.

وقال ابن عباس في قوله تعالى: ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أي أنـزل بكم ما أنـزل بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمَات التي قد عرفتم من المسخ وغيره.

وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة، لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق أخباره، والله الهادي لمن يشاء إلى صراطه المستقيم؛ ولهذا قال: ( وَآمِنُوا بِمَا أَنـزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) [ ( مُصَدِّقًا ) ماضيًا منصوبًا على الحال من ( بِمَا ) أي: بالذي أنـزلت مصدقًا أو من الضمير المحذوف من قولهم: بما أنـزلته مصدقًا، ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل وهو قوله: ( بِمَا أَنـزلْتُ مُصَدِقًا ) ] يعني به: القرآن الذي أنـزله على محمد النبي الأمي العربي بشيرًا ونذيرًا وسراجًا منيرًا مشتملا على الحق من الله تعالى، مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.

قال أبو العالية، رحمه الله، في قوله: ( وَآمِنُوا بِمَا أَنـزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم يقول: لأنهم يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك.

وقوله: ( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) [قال بعض المفسرين: أول فريق كافر به ونحو ذلك] . قال ابن عباس: ( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.

وقال أبو العالية: يقول: ( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ [كَافِرٍ بِهِ ) أول] من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم [يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعهم بمحمد وبمبعثه] .

وكذا قال الحسن، والسدي، والربيع بن أنس.

واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: ( بِهِ ) عائد على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: ( بِمَا أَنـزلْتُ )

وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن.

وأما قوله: ( أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بَشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.

وقوله: ( وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن هارون بن زيد قال: سُئِل الحسن، يعني البصري، عن قوله تعالى: ( ثَمَنًا قَلِيلا ) قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها.

وقال ابن لَهِيعة: حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قوله: ( وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) وإن آياته: كتابه الذي أنـزله إليهم، وإن الثمن القليل: الدنيا وشهواتها.

وقال السدي: ( وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) يقول: لا تأخذوا طمعًا قليلا ولا تكتموا اسم الله لذلك الطمع وهو الثمن.

وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: ( وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم عَلِّم مَجَّانا كما عُلِّمت مَجَّانا.

وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" وأما تعليم العلم بأجرة، فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب، فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه، فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" وقوله في قصة المخطوبة: "زوجتكها بما معك من القرآن" فأما حديث عبادة بن الصامت، أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئًا من القرآن فأهدى له قوسًا، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه، رواه أبو داود وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعًا فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم: أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه الله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم.

( وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عاصم الأحول، عن أبي العالية، عن طلق بن حبيب، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، والتقوى أن تترك معصية الله مخافة عذاب الله على نور من الله.

ومعنى قوله: ( وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.


وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه، من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل: ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) فنهاهم عن الشيئين معًا، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك، عن ابن عباس ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب.

وقال أبو العالية: ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) يقول: ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس، نحوه.

وقال قتادة: ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) [قال] ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام؛ إن دين الله الإسلام، واليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله.

وروي عن الحسن البصري نحو ذلك.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. وروي عن أبي العالية نحو ذلك.

وقال مجاهد، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس: ( وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.

[قلت: ( وَتَكْتُمُوا ) يحتمل أن يكون مجزومًا، ويجوز أن يكون منصوبًا، أي: لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود: "وتكتمون الحق" أي: في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضًا، ومعناه: وأنتم تعلمون الحق، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم، والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل] .

( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) أمرهم أن يؤتوا الزكاة، أي: يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.


يقول: كونوا منهم ومعهم.

وقال علي بن طلحة، عن ابن عباس: [ ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) ] يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص.

وقال وَكِيع، عن أبي جَنَاب، عن عِكْرِمة عن ابن عباس، في قوله: ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) قال: ما يوجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعدا.

وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله تعالى: ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) قال: فريضة واجبة، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن أبي حيان [العجمي] التيمي، عن الحارث العُكلي في قوله: ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) قال: صدقة الفطر.

وقوله تعالى: ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة.

[وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة، وبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد] .

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)

يقول تعالى: كيف يليق بكم -يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير-أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فَعَيّرهم الله، عز وجل. وكذلك قال السدي.

وقال ابن جريج: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ) أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، وَيَدَعُونَ العملَ بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) أي: تتركون أنفسكم ( وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعَهْد من التوراة، وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.

وقال الضحاك، عن ابن عباس في هذه الآية، يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم.

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن الحسن، حدثنا مُسلم الجَرْمي، حدثنا مَخْلَد بن الحسين، عن أيوب السختياني، عن أبي قِلابة في قول الله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ) قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقُت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل يسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )

والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف [معروف] وهو واجب على العالم، ولكن [الواجب و] الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88]. فَكُلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها. والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، [قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول له: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. وقال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟ قلت] ولكنه -والحالة هذه-مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي المعمري، قالا حدثنا هشام بن عمار، حدثنا علي بن سليمان الكلبي، حدثنا الأعمش، عن أبي تَميمة الهُجَيمي، عن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه" .

هذا حديث غريب من هذا الوجه.

حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وَكِيع، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد هو ابن جدعان، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض بمقاريض من نار. قال: قلت: من هؤلاء؟" قالوا: خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟ .

ورواه عبد بن حميد في مسنده، وتفسيره، عن الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة به.

ورواه ابن مردويه في تفسيره، من حديث يونس بن محمد المؤدب، والحجاج بن مِنْهَال، كلاهما عن حماد بن سلمة، به.

وكذا رواه يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة به.

ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عمر بن قيس، عن علي بن زيد عن ثمامة، عن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟" قال: هؤلاء خطباء أمتك، الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.

وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه -أيضًا-من حديث هشام الدَّستَوائيّ، عن المغيرة -يعني ابن حبيب-ختن مالك بن دينار، عن مالك بن دينار، عن ثمامة، عن أنس بن مالك، قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم تُقْرض شفاههم ، فقال: "يا جبريل، من هؤلاء؟" قال: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم؛ أفلا يعقلون؟ .

حديث آخر : قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، قال: قيل لأسامة -وأنا رديفه-: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم تُرَون أني لا أكلمه إلا أسمعكم. إني لا أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا -لا أحب أن أكون أول من افتتحه، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس. وإن كان عليّ أميرًا -بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: "يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" .

ورواه البخاري ومسلم، من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش، به نحوه .

[وقال أحمد: حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء" . وقد ورد في بعض الآثار: أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ [الزمر: 9]. وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل" رواه من حديث الطبراني عن أحمد بن يحيى بن حيان الرقي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الداهري عن عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره] .

وقال الضحاك، عن ابن عباس: إنه جاءه رجل، فقال: يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفْتَضَح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عز وجل ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني. قال: قوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3] أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرفَ الثالث. قال: قول العبد الصالح شعيب، عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود: 88] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك.

رواه ابن مردويه في تفسيره.

وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا زيد بن الحريش، حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العوام بن حوشب، عن [سعيد بن] المسيب بن رافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله


صلى الله عليه وسلم: "من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال، أو دعا إليه" .

إسناده فيه ضعف، وقال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) وقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3] وقوله إخبارا عن شعيب: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] .

وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو:

مــا أقبـح الـتزهيـد مـن واعـظ

يـزهــد النـــاس ولا يزهـــد

لــو كـان فـي تزهيـده صادقــا

أضحــى وأمســى بيتـه المسـجد

إن رفــض النــاس فمـا بـالــه

يســـتفتح النـــاس ويسـترقـد

الــرزق مقسـوم عـلى مـن تـرى

يســقى لــه الأبيـض والأســود


وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول:

وغـير تقـي يـأمر النـاس بـالتقى

طبيــب يـداوي والطبيـب مـريض


قال: فضج الناس بالبكاء. وقال أبو العتاهية الشاعر:

وصفـت التقـى حـتى كأنك ذو تقى

وريـح الخطايـا مـن شـأنك تقطـع


وقال أبو الأسود الدؤلي:

لا تنــه عـن خــلق وتـأتي مثلـه

عــار عليــك إذا فعلــت عظيـم

فـابـدأ بنفسـك فانههـا عـن غيهـا

فــإذا انتهـت عنـه فـأنت حـكيم

فهنـاك يقبــل إن وعظـت ويقتـدى

بــالقول منــك وينفـع التعليــم


وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال: دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل لي في المنام: هي امرأة في الكوفة يقال لها: ميمونة السوداء، فقصدت الكوفة لأراها. فقيل لي: هي ترعى غنما بواد هناك، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منه، ولا يسطو الذئاب عليهن. فلما سلمت قالت: يا ابن زيد، ليس الموعد هنا إنما الموعد ثَمّ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم. فقالت: إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم. فقلت لها: عظيني. فقالت: يا عجبا من واعظ يوعظ، ثم قالت: يا ابن زيد، إنك لو وضعت موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمكتوم مكنون ما فيها، يا ابن زيد، إنه بلغني ما من عبد أعطى من الدنيا شيئا فابتغى إليه تائبا إلا سلبه الله حب الخلوة وبدله بَعْدَ القرب البعد وبعد الأنس الوحشة ثم أنشأت تقول:

يــا واعظًـــا قــام لا حســاب

يزجــر قـومــا عــن الذنــوب

تنـــه عنـه وأنـت السـقيم حقـا

هــذا مــن المنكــر العجــيـب

تنـــه عـــن الغــي والتمـادي

وأنــت فــي النهــي كــالمريب

لــو كـنت أصلحـت قبــل هــذا

غيــك أو تبــت مــــن قـريب

كـــان لمـا قلـت يــا حـبيـبي

مــوضع صــدق مـــن القلـوب


وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

يقول تعالى آمرًا عبيده، فيما يؤمّلون من خير الدنيا والآخرة، بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حَيَّان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، والصلاة.

فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد.

[قال القرطبي وغيره: ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث] .

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن جُرَيّ بن كُليب، عن رجل من بني سليم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم نصف الصبر".

وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها: فعل الصلاة.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن حمزة بن إسماعيل، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سِنان، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله.


[قال] وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر.

وقال ابن المبارك عن ابن لَهِيعة عن مالك بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال: الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب فيه، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد، لا يرى منه إلا الصبر.

وقال أبو العالية في قوله: ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله.

وأما قوله: ( وَالصَّلاةِ ) فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ الآية [العنكبوت: 45].

وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة، يعني ابن اليمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى. ورواه أبو داود [عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي ] .

وقد رواه ابن جرير، من حديث ابن جُرَيج، عن عِكْرِمة بن عمار، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .

[ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة؛ ويقال: أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان أبو مسعود العسكري، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى . وحدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح ] .


قال ابن جرير: وروي عنه، عليه الصلاة والسلام، أنه مر بأبي هريرة، وهو منبطح على بطنه، فقال له: "اشكنب درد" [قال: نعم] قال: "قم فصل فإن الصلاة شفاء" [ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم] . قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا عُيَينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نُعي إليه أخوه قُثَم وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحَّى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) .

وقال سُنَيد، عن حجاج، عن ابن جرير: ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) قال: إنهما مَعُونتان على رحمة الله.

والضمير في قوله: ( وَإِنَّهَا ) عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير.

ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام، وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ [القصص: 80] وقال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35]أي: وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا وَمَا يُلَقَّاهَا أي: يؤتاها ويلهمها إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ

وعلى كل تقدير، فقوله تعالى: ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ) أي: مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين. قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني المصدّقين بما أنـزل الله. وقال مجاهد: المؤمنين حقا. وقال أبو العالية: إلا على الخاشعين الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين. وقال الضحاك: ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ) قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سَطَواته، المصدقين بوعده ووعيده.

وهذا يشبه ما جاء في الحديث: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه" .

وقال ابن جرير: معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب، بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته.


هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم، ولغيرهم. والله أعلم.

وقوله تعالى: ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: وإن الصلاة أو الوَصَاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم، أي: [يعلمون أنهم] محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه، وأنهم إليه راجعون، أي: أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات.

فأما قوله: ( يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ) قال ابن جرير، رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظنا، والشك ظنًا، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة، والضياء سُدفة، والمغيث صارخا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضدّه، كما قال دُرَيد بن الصِّمَّة:

فقلــت لهـم ظُنُّـوا بـألفي مُدَجَّـجٍ

سَــرَاتُهُم فــي الفَارسِـيِّ المُسَـرَّدِ


يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم، وقال عَمِيرة بن طارق:

بِـأنْ يَعْـتَزُوا قومـي وأقـعُدَ فيكـم

وأجـعلَ منـي الظـنَّ غيبـا مرجمّـا


يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما، قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين، أكثر من أن تحصر، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [الكهف: 53].

ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن يقين، أي: ظننت وظَنوا.

وحدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا أبو داود الحَفَرِيّ، عن سفيان عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم. وهذا سند صحيح.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ) قال: الظن هاهنا يقين.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة نحو قول أبي العالية.


وقال سُنَيد، عن حجاج، عن ابن جريج: ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ ) علموا أنهم ملاقو ربهم، كقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 20] يقول: علمت.

وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

قلت: وفي الصحيح: "أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك، ألم أكرمك، ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول الله تعالى: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول الله: اليوم أنساك كما نسيتني". وسيأتي مبسوطا عند قوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] إن شاء الله، والله تعالى أعلم.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)

يذكرهم تعالى سَالفَ نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فَضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وإنـزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 32]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 20].

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: ( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالما.

ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران: 110] وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حَيْدَة , القُشَيري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم تُوفُونَ سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله". والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ

[وقيل: المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقًا، حكاه فخر الدين الرازي وفيه نظر. وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره، وفيه نظر؛ لأن ( الْعَالَمِينَ ) عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين] .


وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

لما ذكرهم [الله] تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حُلُول نقمه بهم يوم القيامة فقال: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا ) يعني: يوم القيامة ( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ) أي: لا يغني أحد عن أحد كما قال: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام : 164] ، وقال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس : 37 ] ، وقال يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [لقمان : 33] ، فهذه أبلغ المقامات: أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا، وقوله تعالى: ( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) يعني عن الكافرين، كما قال: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر : 48] ، وكما قال عن أهل النار: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء : 100 ، 101] ، وقوله: ( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران : 91 ] وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة : 36 ] وقال تعالى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا [الأنعام : 70 ] ، وقال: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية [الحديد : 15] ، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهبا، كما قال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة : 254] ، وقال لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إبراهيم : 31 ].

[وقال سنيد: حدثني حجاج، حدثني ابن جريج، قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: ( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) قال: بدل، والبدل: الفدية، وقال السدي: أما عدل فيعدلها من العذاب يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم،] . وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: ( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) يعني: فداء.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي مالك، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس، نحو ذلك.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن علي ، رضي الله عنه، في حديث طويل، قال: والصرف والعدل: التطوع والفريضة.

وكذا قال الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة ، عن عمير بن هانئ.


وهذا القول غريب هنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية، وقد ورد حديث يقويه، وهو ما قال ابن جرير: حدثني نَجِيح بن إبراهيم، حدثنا علي بن حكيم، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عَمْرو بن قيس الملائي ، عن رجل من بني أمية -من أهل الشام أحسن عليه الثناء -قال: قيل: يا رسول الله، ما العدل؟ قال: "العدل الفدية" .

وقوله تعالى: ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء. هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم، ولا من غيرهم، كما قال: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق : 10 ] أي: إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فِدْيَة ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ، ولا يجيره منه أحد، كما قال تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون : 88 ] . وقال فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر : 25، 26 ] ، وقال مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات : 25 ، 26 ] ، وقال فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ الآية [الأحقاف : 28].

وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ما لكم اليوم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.

قال ابن جرير: وتأويل قوله: ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بَطَلت هنالك المحاباة واضمحلت الرَّشى والشفاعات، وارتفع من القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى عدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [ الصافات : 24-26 ]

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 2:00 am


وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

يقول تعالى واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم (إِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي:


خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى، عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب. وذلك أن فرعون -لعنه الله-كان قد رأى رؤيا هالته، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال: بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم، يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفُتُون، كما سيأتي في موضعه [في سورة طه] إن شاء الله، فعند ذلك أمر فرعون -لعنه الله-بقتل كل [ذي] ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها.

وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [إبراهيم : 6] وسيأتي تفصيل ذلك في أول سورة القصص، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة والمعونة والتأييد.

ومعنى ( يَسُومُونَكُمْ ) أي: يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم:

إذا مـا الملـك سـام النـاس خسـفا

أبينــا أن نقــر الخســف فينــا


وقيل: معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله: ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) ثم فسره بهذا لقوله هاهنا اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأما في سورة إبراهيم فلما قال: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم:5] ، أي: بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي.

وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر، كافرًا من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا، وكذلك كسرى لكل من ملك الفرس، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافرا [والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند] ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى، عليه السلام، الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان، أيا ما كان فعليه لعنة الله، [وكان من سلالة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح، وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من استخر] .


وقوله تعالى: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم. أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [في] قوله: ( بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال: نعمة. وقال مجاهد: ( بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) قال: نعمة من ربكم عظيمة. وكذا قال أبو العالية، وأبو مالك، والسدي، وغيرهم.

وأصل البلاء: الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ، وقال: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ [الأعراف: 168].

قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر: بلوته أبلوه بَلاءً، وفي الخير: أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى:

جـزى اللـه بالإحسـان مـا فَعَلا بكُم

وأبلاهمـا خَـيْرَ البـلاءِ الـذي يَبْلُـو


قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يَخْتَبر بها عباده.

[وقيل: المراد بقوله: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ ) إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء؛ قال القرطبي: وهذا قول الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الأول، ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان] .

وقوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم مع موسى، عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله.

( فَأَنْجَيْنَاكُمْ ) أي: خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.

قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمر، عن أبي إسحاق الهَمْداني، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ) إلى قوله: ( وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك

حتى أصبحوا؛ فدعا بشاة فَذُبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه، يقال له: يوشع بن نون: أين أمَرَ ربك؟ قال: أمامك، يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ، فذهب به الغمر، ثم رجع. فقال: أين أمَرَ ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت وما كُذبت . فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء : 63 ] ، يقول: مثل الجبل. ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال: ( وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) .

وكذلك قال غير واحد من السلف، كما سيأتي بيانه في موضعه . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا اليوم الذي تصومون؟". قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم ، فصامه موسى، عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى منكم". فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصومه.

وروى هذا الحديث البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من طرق، عن أيوب السختياني، به نحو ما تقدم.

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع، حدثنا سلام -يعني ابن سليم-عن زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " .

وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.


وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لَمَّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمَد المواعدة، وكانت أربعين يومًا، وهي المذكورة في الأعراف، في قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف: 142] قيل: إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر.

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

وقوله: ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) يعني: التوراة ( وَالْفُرْقَانَ ) وهو ما يَفْرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال ( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) وكان ذلك -أيضا-بعد خروجهم من البحر، كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف. ولقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 43].

وقيل: الواو زائدة، والمعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان وهذا غريب، وقيل: عطف عليه وإن كان المعنى واحدًا، كما في قول الشاعر:

وقـــدمت الأديـــم لراقشـــيه

فـــألفى قولهــا كذبًــا ومينــا


وقال الآخر:

ألا حــبذا هنــد وأرض بهـا هنـد

وهنـد أتـى مـن دونهـا النأي والبعد


فالكذب هو المين، والنأي: هو البعد. وقال عنترة:

حــييت مــن طلـل تقـادم عهـده

أقــوى وأقفــر بعــد أم الهيثــم


فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) .

هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري، رحمه الله، في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ) فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حين قال الله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا الآية [الأعراف : 149] .

قال: فذلك حين يقول موسى: ( يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ )

وقال أبو العالية، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس: ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) أي إلى خالقكم.

قلت: وفي قوله هاهنا: ( إِلَى بَارِئِكُمْ ) تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.


وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن هارون، عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل والمقتول. وهذا قطعة من حديث الفُتُون، وسيأتي في تفسير سورة طه بكماله، إن شاء الله .

وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار، حدثنا سفيان بن عيينة، قال: قال أبو سعيد: عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال موسى لقومه: ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) قال: أمر موسى قومه -من أمر ربه عز وجل -أن يقتلوا أنفسهم قال: واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظُلَّة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلَّة عنهم، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.

وقال ابن جُرَيْج: أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدًا يقولان في قوله تعالى: ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضًا، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى ألوى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فكُشِفَ عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن حَسْبي، فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى بثوبه، [وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك] .

وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل، فجعل لحيهم توبة، وللمقتول شهادة.

وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حنْدس، فقتل بعضهم بعضا [نقمة] ثم انكشف عنهم، فجعل توبتهم في ذلك.

وقال السدي في قوله: ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا، حتى كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفًا، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقيةَ البقيةَ،

فأمرهم أن يضعوا السلاح وتاب عليهم، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدًا، ومن بقي مُكَفّرا عنه؛ فذلك قوله: ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )

وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى، فاضطربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه، حتى إذا أفنوا بعضهم ، قالوا: يا نبي الله، ادع الله لنا. وأخذوا بعضُديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم، بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله، جل ثناؤه، إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي فقد قبلت توبته. فسُرّ بذلك موسى، وبنو إسرائيل.

رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه.

وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذَرّاه في اليم، خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بُعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل. فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نَصبر لأمر الله. فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يَقْتُل من عبده. فجلسوا بالأفنية وأصْلَتَ عليهم القومُ السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى، وَبَهَش إليه النساء والصبيان، يطلبون العفو عنهم، فتاب الله عليهم، وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه، وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم. فقالوا: يا موسى، ما من توبة؟ قال: بلى، ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) الآية، فاخترطوا السيوف والجرزَة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة. قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي، ويقتل بعضهم بعضًا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري. قال: ويتنادون [فيها] : رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم، ثم قرأ: ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا، مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج، قال ابن عباس في هذه الآية: ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) قال: علانية.

وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق، عن أبي الحويرث، عن ابن عباس، أنه قال في قول الله تعالى: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) أي علانية، أي حتى نرى الله.

وقال قتادة، والربيع بن أنس: ( حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) أي عيانا.

وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) قال: فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول: ماتوا.

وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة: صيحة من السماء.

وقال السدي في قوله: ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) الصاعقة: نار.

وقال عروة بن رويم في قوله: ( وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) قال: فصعق بعضهم وبعض ينظرون ، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.

وقال السدي: ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا [الأعراف : 155]. فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلٌ رجلٌ، ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وكذا قال قتادة.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخَيِّرَ فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّتَه له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم، فقال له السبعون، فيما ذكر لي، حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع،

لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) فأخذتهم الرجفة ، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ [وَإِيَّايَ] [ الأعراف : 155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك. اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف : 156] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى ردّ إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا؛ إلا أن يقتلوا أنفسهم .

هذا سياق محمد بن إسحاق.

وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عَينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. وساق البقية.

[وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى، إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته، وهذا غريب جدا، إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم، عليه السلام، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون؟

القول الثاني في الآية] قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى -لما رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى

يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى! وقرأ قول الله: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا. قال : خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.

[وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق؛ والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح، والله أعلم] .

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم -أيضا-بما أسبغ عليهم من النعم، فقال: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) وهو جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يَغُمّ السماء، أي: يواريها ويسترها. وهو السحاب الأبيض، ظُلِّلوا به في التيه ليقيهم حر الشمس. كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفُتُون، قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وأبي مجلز، والضحاك، والسدي، نحو قول ابن عباس.

وقال الحسن وقتادة: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) [قال] كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس.

وقال ابن جرير قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا، وأطيب.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم.

وهكذا رواه ابن جرير، عن المثنى بن إبراهيم، عن أبي حذيفة.


وكذا رواه الثوري، وغيره، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وكأنه يريد، والله أعلم، أنه ليس من زِيّ هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة : 210] وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه.

وقوله: ( وَأَنـزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ) اختلفت عبارات المفسرين في المن: ما هو؟ فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كان المن ينـزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا.

وقال مجاهد: المن: صمغة. وقال عكرمة: المن: شيء أنـزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرِّبِ الغليظ.

وقال السدي: قالوا: يا موسى، كيف لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنـزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجر الزنجبيل.

وقال قتادة: كان المن ينـزل عليهم في محلتهم سقوط الثلج، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه، ليوم جمعته، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية.

وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينـزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.

وقال وهب بن منبه -وسئل عن المن-فقال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النَقيِّ.

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن.

وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنه العسل.

ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت، حيث قال:

فـــرأى اللــه أنهــم بمضيــع

لا بـــذي مــزرع ولا مثمــورا

فســـناها عليهـــم غاديـــات

وتــرى مــزنهم خلايـا وخـورا

عســلا ناطفــا ومــاء فراتــا

وحليبـــا ذا بهجـــة مرمــورا



فالناطف: هو السائل، والحليب المرمور: الصافي منه.

والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر، والله أعلم، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب ، وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد، فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده؛ والدليل على ذلك قول البخاري:

حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن عبد الملك، عن عمر بن حريث عن سعيد بن زيد، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك، وهو ابن عمير، به .

وأخرجه الجماعة في كتبهم، إلا أبا داود، من طرق عن عبد الملك، وهو ابن عمير، به . وقال الترمذي: حسن صحيح، ورواه البخاري ومسلم والنسائي من رواية الحكم، عن الحسن العُرَني، عن عمرو بن حريث، به .

وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غَيْلان، قالا حدثنا سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين" .

تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد بن عامر، عنه، وفي الباب عن سعيد بن زيد، وأبي سعيد وجابر.

كذا قال، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره، من طريق آخر، عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري، حدثنا أسلم بن سهل، حدثنا القاسم بن عيسى، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن، عن قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي، يكنى بأبي

محمد، وقيل: أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها .

ثم قال [الترمذي] حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم".

وهذا الحديث قد رواه النسائي، عن محمد بن بشار، به . وعنه، عن غندر، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، به . وعن محمد بن بشار، عن عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب. بقصة الكمأة فقط .

وروى النسائي -أيضا-وابن ماجه من حديث محمد بن بشار، عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد، عن مطر الوراق، عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي، وبالقصتين عند ابن ماجه .

وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه، عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول جدري الأرض، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .

وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، قالا قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم" .

قال النسائي في الوليمة أيضا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد وجابر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" . ثم رواه -أيضا-، وابن ماجه من طرق، عن الأعمش، عن أبي بشر، عن شهر، عنهما، به .

وقد رويا -أعني النسائي وابن ماجه-من حديث سعيد بن مسلم كلاهما عن الأعمش، عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، زاد النسائي: [وحديث] جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .

ورواه ابن مردويه، عن أحمد بن عثمان، عن عباس الدوري، عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش، كابن ماجه.

وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا عباس الدوري، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت، فقال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين".

وأخرجه النسائي، عن عمرو بن منصور، عن الحسن بن الربيع ثم [رواه] ابن مردويه. رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام، عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان عن الأعمش به، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن عبيد الله بن موسى [به] .

وقد روي من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه:

حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا حمدون بن أحمد، حدثنا حوثرة بن أشرس، حدثنا حماد، عن شعيب بن الحبحاب عن أنس: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فقال بعضهم: نحسبه الكمأة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم" .


وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا، والله أعلم .

[وقد] روي عن شهر، عن ابن عباس، كما رواه النسائي -أيضًا-في الوليمة، عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد، عن عبد الله بن عون الخَرّاز، عن أبي عبيدة الحداد، عن عبد الجليل بن عطية، عن شهر، عن عبد الله بن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" .

فقد اختلف -كما ترى فيه-على شهر بن حوشب، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم، فإن الأسانيد إليه جيدة، وهو لا يتعمد الكذب، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم من رواية سعيد بن زيد.

وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السلوى طائر شبيه بالسُّمَّانى، كانوا يأكلون منه.

وقال السدي في خَبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: السلوى: طائر يشبه السُّمَّانَى.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا قرّة بن خالد، عن جهضم، عن ابن عباس، قال: السلوى: هو السمَّانى.

وكذا قال مجاهد، والشعبي، والضحاك، والحسن، وعكرمة، والربيع بن أنس، رحمهم الله.

وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور، أو نحو ذلك.

وقال قتادة: السلوى من طير إلى الحمرة، تحشُرها عليهم الريحُ الجنَوبُ. وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.

وقال وهب بن منبه: السلوى: طير سمين مثل الحمام، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت. وفي رواية عن وهب، قال: سألَتْ بنو إسرائيل موسى عليه السلام، اللحم، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحًا، فأذرت عند مساكنهم السلوى، وهو السمانى مثل ميل في ميل قيدَ رمح إلى السماء فخبَّؤوا للغد فنتن اللحم وخنـز الخبز.


وقال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه، قالوا لموسى، عليه السلام: كيف لنا بما هاهنا؟ أين الطعام؟ فأنـزل الله عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فَأُمِر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب، فأين الظل؟ فَظَلَّل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يَنْخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنـزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) وقوله وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].

وروي عن وهب بن منبه، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.

وقال سُنَيْد، عن حجاج، عن ابن جُرَيْج، قال: قال ابن عباس: خُلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن، قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدًا.

[قال ابن عطية: السلوى: طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي في قوله: إنه العسل، وأنشد في ذلك مستشهدًا:

وقاســمها باللــه جــهدًا لأنتــم

ألـذ مـن السـلوى إذا مـا أشـورها


قال: فظن أن السلوى عسلا قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح؛ لأن المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال: إنه العسل، واستدل ببيت الهذلي هذا، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة؛ لأنه يسلى به ومنه عين سلوان، وقال الجوهري: السلوى العسل، واستشهد ببيت الهذلي -أيضا-، والسلوانة بالضم خرزة، كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر:

شـربت عـلى سـلوانة مـاء مزنـة

فـلا وجـديد العيش يـا مـي ما أسلو


واسم ذلك الماء السلوان، وقال بعضهم: السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء يسمونه(مُفَرِّح)، قالوا: والسلوى جمع بلفظ -الواحد-أيضًا، كما يقال: سمانى للمفرد والجمع ودِفْلَى كذلك، وقال الخليل واحده سلواة، وأنشد:

وإنــي لتعــروني لذكـراك هـزة

كمـا انتفـض السـلواة من بلل القطر



وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوي، نقله كله القرطبي ] .

وقوله تعالى: ( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) أمر إباحة وإرشاد وامتنان. وقوله: ( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [البقرة:57] ، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا، كما قال: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ [سبأ:15] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مَبْرك الشاة، فدعا [الله] فيه، وأمرهم فملؤوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى، فجاءت سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملؤوا أسقيتهم. ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في الاتباع: المشي مع قدر الله، مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 2:02 am

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى، عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم، كما ذكره تعالى في سورة المائدة؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس، كما نص على ذلك السدي، والرّبيع بن أنس، وقتادة، [وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الآيات] .[المائدة: 21-24]

وقال آخرون: هي أريحا [ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد] وهذا بعيد؛ لأنها ليست على طريقهم، وهو قاصدون بيت المقدس لا أريحا [وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها مصر، حكاه فخر الدين في تفسيره، والصحيح هو الأول؛ لأنها بيت المقدس] . وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون، عليه السلام، وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب -باب البلد- ( سُجَّدًا ) أي: شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، وردّ بلدهم إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال.

قال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: ( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) أي ركعا.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قال: ركعا من باب صغير.

رواه الحاكم من حديث سفيان، به. ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان، وهو الثوري، به . وزاد: فدخلوا من قبل أستاههم.

[وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم، واستبعده الرازي، وحكى عن بعضهم: أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته] .

وقال خصيف: قال عكرمة، قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة.

وقال [ابن عباس و] مجاهد، والسدي، وقتادة، والضحاك: هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس، [وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية] .

وقال خَصِيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: فدخلوا على شق، وقال السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنُود، عن عبد الله بن مسعود: وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا، فدخلوا مقنعي رؤوسهم، أي: رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا.

وقوله: ( وَقُولُوا حِطَّةٌ ) قال الثوري عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَقُولُوا حِطَّةٌ ) قال: مغفرة، استغفروا.

وروي عن عطاء، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحوه.

وقال الضحاك عن ابن عباس: ( وَقُولُوا حِطَّةٌ ) قال: قولوا: هذا الأمر حق، كما قيل لكم.

وقال عكرمة: قولوا: لا إله إلا الله.

وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى: ( وَقُولُوا حِطَّةٌ ) فكتب إليه: أن أقروا بالذنب.

وقال الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا.

( نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنـزيدُ الْمُحْسِنِينَ ) هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات.

وحاصل الأمر: أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى، كما قال تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر] فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نُعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر [بن الخطاب] رضي الله عنه. ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك، ونعي إليه روحه الكريمة أيضًا؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدًا عند النصر، كما روي أنه كان يوم الفتح -فتح مكة-داخلا إليها من الثنية العليا، وإنَّه الخاضع لربه حتى إن عُثْنونه ليمس مَوْرِك رحله، يشكر الله على ذلك. ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضُحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون: بل هي صلاة الفتح، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم؛ وقيل: يصليها كلها بتسليم واحد، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) قال البخاري: حدثني محمد، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، عن ابن المبارك، عن مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبّه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل لبني إسرائيل: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ) فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدّلوا وقالوا: حطة: حبة في شعرة" .

ورواه النسائي، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن مهدي به موقوفا وعن محمد بن عبيد بن محمد، عن ابن المبارك ببعضه مسندًا، في قوله تعالى: ( حِطَّةٌ ) قال: فبدلوا. فقالوا: حبة .


وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن هَمَّام بن مُنَبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل: ( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ) فبدلوا، ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم، فقالوا: حبة في شعرة" .

وهذا حديث صحيح، رواه البخاري عن إسحاق بن نصر، ومسلم عن محمد بن رافع. والترمذي عن عبد بن حميد، كلهم عن عبد الرزاق، به . وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخلوا الباب -الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا-يزحفون على أستاههم، وهم يقولون: حنطة في شعيرة" .

وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، وحدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله لبني إسرائيل: (ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ )" ثم قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، مثله .

هكذا رواه منفردًا به في كتاب الحروف مختصرًا.

وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القَزّاز، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل، أجَزْنا في ثنية يقال لها: ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ )" .

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة: 142] قال اليهود: قيل لهم: ادخلوا الباب سجدًا، قال: ركعًا، وقولوا: حطة: أي مغفرة، فدخلوا على أستاههم، وجعلوا يقولون: حنطة حمراء فيها شعيرة ، فذلك قول الله تعالى: ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) .

وقال الثوري، عن السدي، عن أبي سعد الأزدي، عن أبي الكَنود، عن ابن مسعود: ( وَقُولُوا حِطَّةٌ ) فقالوا: حنطة حبة حمراء فيها شعيرة ، فأنـزل الله: ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ )

وقال أسباط، عن السدي، عن مرة، عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: "هُطِّي سمعاتا أزبة مزبا" فهي بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء، فذلك قوله: ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ )

وقال الثوري، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) ركعًا من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا: حنطة، فهو قوله تعالى: ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ )

وهكذا روي عن عطاء، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن رافع.

وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق من الحديث أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجدًا، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا، فاستهزؤوا فقالوا: حنطة في شعرة . وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا أنـزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم، وهو خروجهم عن طاعته؛ ولهذا قال: ( فَأَنـزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )

وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من "الرِّجْز" يعني به العذاب.

وهكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، والسدي، والحسن، وقتادة، أنه العذاب. وقال أبو العالية: الرجز الغضب. وقال الشعبي: الرجز: إما الطاعون، وإما البرد. وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد -يعني ابن أبي وقاص-عن سعد بن مالك، وأسامة بن زيد، وخزيمة بن ثابت، رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون رجْز عذاب عُذِّب به من كان قبلكم" .

وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به . وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها" الحديث .

قال ابن جرير: أخبرني يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذِّب به بعض الأمم قبلكم" . وهذا الحديث أصله مخرَّج في الصحيحين، من حديث الزهري، ومن حديث مالك، عن محمد بن المُنكَدِر، وسالم أبي النضر، عن عامر بن سعد، بنحوه .

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى، عليه السلام، حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حَجَر يُحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينًا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك. ( وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ ) ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم، كما قال ابن عباس: وجُعِل بين ظهرانيهم حجر مربَّع وأمر موسى، عليه السلام، فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم، يشربون منها لا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنـزل الأول.

وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وهو حديث الفتون الطويل .

وقال عطية العوفي: وجُعل لهم حجر مثل رأس الثور يحمل على ثور، فإذا نـزلوا منـزلا وضعوه فضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فإذا ساروا حملوه على ثور، فاستمسك الماء.


وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه: كان لبني إسرائيل حجر، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا.

وقال قتادة: كان حجرًا طوريًا، من الطور، يحملونه معهم حتى إذا نـزلوا ضربه موسى بعصاه.

[وقال الزمخشري: وقيل: كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع، وقيل: مثل رأس الإنسان، وقيل: كان من أسس الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى. وله شعبتان تتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار، قال: وقيل: أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه، حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا، وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس، فقالوا: إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون] .

وقال يحيى بن النضر: قلت لجويبر: كيف علم كل أناس مشربهم؟ قال: كان موسى يضع الحجر، ويقوم من كل سبط رجل، ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا فيتنضح من كل عين على رجل، فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين.

وقال الضحاك: قال ابن عباس: لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارًا.

وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ذلك في التيه، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيه اثنتا عشرة عينًا من ماء، لكل سِبْط منهم عين يشربون منها.

وقال مجاهد نحو قول ابن عباس.

وهذه القصة شبيهة بالقصة المذكورة في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب؛ لأن الله تعالى يقص ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم عما فعل بهم. وأما في هذه السورة، وهي البقرة فهي مدنية؛ فلهذا كان الخطاب فيها متوجهًا إليهم. وأخبر هناك بقوله: فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [الأعراف: 160] وهو أول الانفجار، وأخبر هاهنا بما آل إليه الأمر آخرًا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار هاهنا، وذاك هناك، والله أعلم.

وبين السياقين تباين من عشرة أوجه لفظية ومعنوية قد سأل عنها الرازي في تفسيره وأجاب عنها بما عنده، والأمر في ذلك قريب والله تبارك وتعالى أعلم بأسرار كتابه.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ

يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنـزالي عليكم المن والسلوى، طعامًا طيبًا نافعًا هنيئًا سهلا واذكروا دَبَرَكم وضجركم مما رزَقتكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيّة من البقول ونحوها مما سألتم. وقال الحسن البصري رحمه الله: فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قومًا أهل أعداس وبصل وبقول وفوم، فقالوا: ( يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ) [وهم يأكلون المن والسلوى، لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد] . فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة. وأما "الفوم" فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود "وثومها" بالثاء، وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم، عنه، بالثوم. وكذا الربيع بن أنس، وسعيد بن جبير.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري، عن يونس، عن الحسن، في قوله: ( وَفُومِهَا ) قال: قال ابن عباس: الثوم.

قالوا: وفي اللغة القديمة: فَوِّمُوا لنا بمعنى: اختبزوا. وقال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحًا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في "عاثُور شَرّ، وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير". وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما، والله أعلم.

وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب قراءة، حدثني نافع بن أبي نعيم: أن ابن عباس سئِل عن قول الله: ( وَفُومِهَا ) ما فومها؟ قال: الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول:

قـد كـنتُ أغنـى الناس شخصًا واحدًا

وَرَدَ المدينــة عــن زرَاعـة فُـوم


وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجرمي، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كُرَيْب، عن أبيه، عن ابن عباس، في قول الله تعالى: ( وَفُومِهَا ) قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم.


وكذا قال علي بن أبي طلحة، والضحاك وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم: الحنطة.

وقال سفيان الثوري، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد وعطاء: ( وَفُومِهَا ) قالا وخبزها.

وقال هُشَيْم عن يونس، عن الحسن، وحصين، عن أبي مالك: ( وَفُومِهَا ) قال: الحنطة.

وهو قول عكرمة، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم، والله أعلم .

[وقال الجوهري: الفوم: الحنطة. وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمص لغة شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي مغير عن فومي] .

وقال البخاري: وقال بعضهم: الحبوب التي تؤكل كلها فوم.

وقوله تعالى: ( قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ) فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيّة مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع.

وقوله: ( اهْبِطُوا مِصْرًا ) هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف.

قال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك؛ لإجماع المصاحف على ذلك.

وقال ابن عباس: ( اهْبِطُوا مِصْرًا ) قال: مصرًا من الأمصار، رواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان، عن عكرمة، عنه.

قال: وروي عن السدي، وقتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك.

وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: "اهبطوا مصر" من غير إجراء يعني من غير صرف. ثم روى عن أبي العالية، والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون.

وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية، وعن الأعمش أيضًا.

وقال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضًا. ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف، كما في قوله تعالى: قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا [الإنسان: 15، 16] . ثم توقف في المراد ما هو؟ أمصر فرعون أم مصر من الأمصار؟

وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره، والمعنى على ذلك لأن موسى، عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه؛ ولهذا قال: ( أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ) أي: ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه، لم يجابوا إليه، والله أعلم .

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

يقول تعالى: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ) أي: وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم، وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون .

قال الضحاك عن ابن عباس في قوله: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ) قال: هم أصحاب النيالات يعني أصحاب الجزية.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الحسن وقتادة، في قوله تعالى: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ) قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقال الضحاك: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) قال: الذل. وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين. ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية.

وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة. وقال عطية العوفي: الخراج. وقال الضحاك: الجزية.

وقوله تعالى: ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس: فحدَثَ عليهم غضب من الله. وقال سعيد بن جبير: ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) يقول: استوجبوا سخطًا، وقال ابن جرير: يعني بقوله: ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باؤوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءًا وبواء. ومنه قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة: 29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذًا: فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.

وقوله تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) يقول تعالى:


هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كبْر أعظم من هذا، أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكبر بَطَر الحق، وغَمْط الناس" .

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: قال ابن مسعود: كنت لا أحجب عن النَّجْوى، ولا عن كذا ولا عن كذا قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته من آخر حديثه، وهو يقول: يا رسول الله، قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحدًا من الناس فَضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي؟ فقال: "لا ليس ذلك من البغي، ولكن البغي مَنْ بطر -أو قال: سفه الحق-وغَمط الناس". يعني: رد الحق وانتقاص الناس، والازدراء بهم والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقًا .

قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله -يعني ابن مسعود-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين" .

وقوله تعالى: ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به، أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به. والله أعلم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 2:03 am

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

لما بين [الله] تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30] .

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدني، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: قال سلمان: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم، فنـزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) إلى آخر الآية.

وقال السدي: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا ) الآية: نـزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيًا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان، هم من أهل النار". فاشتد ذلك على سلمان، فأنـزل الله هذه الآية، فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، عليه السلام؛ حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها ولم يتبع عيسى، كان هالكًا. وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعْ محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم ويَدَعْ ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل -كان هالكا.

وقال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا.

قلت: وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) الآية فأنـزل الله بعد ذلك: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] .


فإن هذا الذي قاله [ابن عباس] إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه [الله] بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى، عليه السلام، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم.

واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى، عليه السلام: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف: 156] أي: تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض.

[وقيل: لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون، أي: يتحركون عند قراءة التوراة] .

فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم: أنصار أيضًا، كما قال عيسى، عليه السلام: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران: 52] وقيل: إنهم إنما سُمّوا بذلك من أجل أنهم نـزلوا أرضًا يقال لها ناصرة، قاله قتادة وابن جُرَيج ، وروي عن ابن عباس أيضًا، والله أعلم.

والنصارى: جمع نصران كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة: نصرانة، قال الشاعر:

نصرانـة لم تَحَنَّـفِ


فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر. وهؤلاء هم المؤمنون [حقا] . وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية. وأما الصابئون فقد اختلف فيهم؛ فقال سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين. وكذا رواه ابن أبي نجيح، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.

وقال أبو العالية والربيع بن أنس، والسدي، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك [وإسحاق بن راهويه] الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور.

[ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم] .

وقال هشيم عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتيبة فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس، فقال الحكم: ألم أخبركم بذلك.

وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن ذكر الصابئين، فقال: هم قوم يعبدون الملائكة.

[وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن الحسن قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة] .

وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، ويصلون إلى القبلة.

وكذا قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: الصابئون قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات.

وسئل وهب بن منبه عن الصابئين، فقال: الذي يعرف الله وحده، وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرًا.

وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول: لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون، يشبهونهم بهم، يعني في قول: لا إله إلا الله.

وقال الخليل هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح، عليه السلام. وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح: أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس، ولا تؤكل ذبائحهم، قال ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم. قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم، وأنها فاعلة؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها، قال: وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل، عليه السلام، رادًا عليهم ومبطلا لقولهم.

وأظهر الأقوال، والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي، أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك.

وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)

يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف : 171] فالطور هو الجبل، كما فسره بآية الأعراف، ونص على ذلك ابن عباس، ومجاهد، وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس، وغير واحد، وهذا ظاهر .

وفي رواية عن ابن عباس: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور.

وفي حديث الفتون: عن ابن عباس: أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا [فسجدوا] .

وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدًا [فسجدوا] على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم، فقالوا والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم، فهم يسجدون كذلك، وذلك قوله تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) .

وقال الحسن في قوله: ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ) يعني التوراة.

وقال أبو العالية، والربيع بن أنس: ( بِقُوَّةٍ ) أي بطاعة. وقال مجاهد: بقوة: بعمل بما فيه. وقال قتادة ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ) القوة: الجد وإلا قذفته عليكم.

قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة. ومعنى قوله: وإلا قذفته عليكم، أي أسقطه عليكم، يعني الجبل.

وقال أبو العالية والربيع: ( وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ) يقول: اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به.

وقوله تعالى: ( ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه ( فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ) أي: توبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم ( لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

يقول تعالى: ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ) يا معشر اليهود، ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت. فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة. فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم. وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف : 163 ] القصة بكمالها.


وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل "أيلة". وكذا قال قتادة، وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة .

وقوله: ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة : 5].

ورواه ابن جرير، عن المثنى، عن أبي حذيفة. وعن محمد بن عمرو الباهلي، عن أبي عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، به.

وهذا سند جيد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، قال الله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ الآية [المائدة : 60] .

وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: ( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) فجعل [الله] منهم القردة والخنازير. فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير.

وقال شيبان النحوي، عن قتادة: ( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) فصار القوم قرودًا تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء.

وقال عطاء الخراساني: نودوا: يا أهل القرية، ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان، ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم، أي بلى.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة بالمصيصة، حدثنا محمد بن مسلم -يعني الطائفي-عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فُوَاقا ثم هلكوا. ما كان للمسخ نسل .

وقال الضحاك، عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول: إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها الله في كتابه، فمسخ [الله] هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء. ويحوله كما يشاء.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) قال: يعني أذلة صاغرين. وروي عن مجاهد، وقتادة والربيع، وأبي مالك، نحوه.

وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة-فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور، يقال لها: "مدين"؛ فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعًا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتًا صغيرًا ولا كبيرًا. حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعًا، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتًا سرًا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدًا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد جاء فأخذه، أي: إني لم آخذه في يوم السبت ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل، وصنعوا سرًا زمانًا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في بالأسواق . فقالت طائفة منهم من أهل البقية: ويحكم، اتقوا الله. ونهوهم عما يصنعون. فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ لسخطنا أعمالهم وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف : 164] .

قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم وفقدوا الناس فلا يرونهم قال: فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنًا! فانظروا ما هو. فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الجميع منهم، قال: وهي القرية التي قال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ الآية [الأعراف : 163] . وروى الضحاك عن ابن عباس نحوًا من هذا.

قال السدي في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) قال: فهم أهل "أيلة"، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت -وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئًا-لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن مقل البحر، فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت، فذلك قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] [الأعراف: 163]. فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة، ويجعل لها نهرًا إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه، فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره ريحه فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره، حتى فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون يوم السبت، وهو لا يحل لكم، فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه. فقال العلماء لا ولكنكم صدتموه يوم فتحكم الماء فدخل، قال: وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا يقول: لم تعظوهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف : 164] فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار، ففتح المسلمون بابًا والمعتدون في السبت بابًا، ولعنهم داود، عليه السلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم، والكفار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم، فلما أبطأوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض، فذلك قول الله تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف :166 ] وذلك حين يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة : 78 ]. فهم القردة.

قلت: والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد، رحمه الله، من أن مسخهم إنما كان معنويًا لا صوريًا بل الصحيح أنه معنوي صوري، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) قال بعضهم: الضمير في ( فَجَعَلْنَاهَا ) عائد على القردة، وقيل: على الحيتان، وقيل: على العقوبة، وقيل: على القرية؛ حكاها ابن جرير.

والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي: فجعل الله هذه القرية، والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم ( نَكَالا ) أي: عاقبناهم عقوبة، فجعلناها . عبرة، كما قال الله عن فرعون: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات : 25].


وقوله: ( لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ) أي من القرى. قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى. كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف : 27] ، ومنه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا الآية [الرعد : 41 ] ، على أحد الأقوال، فالمراد: لما بين يديها وما خلفها في المكان، كما قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى. وكذا قال سعيد بن جبير ( لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ) [قال] من بحضرتها من الناس يومئذ.

وروي عن إسماعيل بن أبي خالد، وقتادة، وعطية العوفي: ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْها [وَمَا خَلْفَهَا] ) قال: ما [كان] قبلها من الماضين في شأن السبت.

وقال أبو العالية والربيع وعطية: ( وَمَا خَلْفَهَا ) لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم.

وكان هؤلاء يقولون: المراد بما بين يديها وما خلفها في الزمان.

وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ هذا لعل أحدًا من الناس لا يقوله بعد تصوره، فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى؛ كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والله أعلم.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع عن أبي العالية: ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ) أي: عقوبة لما خلا من ذنوبهم.

وقال ابن أبي حاتم وروي عن عكرمة، ومجاهد، والسدي، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحو ذلك.

وحكى القرطبي، عن ابن عباس والسدي، والفراء، وابن عطية ( لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ) بين ذنوب القوم ( وَمَا خَلْفَهَا ) لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى فخر الدين ثلاثة أقوال:

أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها: من تقدمها من القرى، بما عندهم من العلم بخبرها، بالكتب المتقدمة ومن بعدها.

الثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم.


والثالث: أنه جعلها تعالى عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، قال: وهذا قول الحسن. قلت: وأرجح الأقوال أن المراد بما بين يديها وما خلفها: من بحضرتها من القرى التي يبلغهم خبرها، وما حل بها، كما قال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف : 27] وقال تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ [الرعد : 31] ، وقال أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الأنبياء : 44 ] ، فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم، وعبرة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: ( وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ )

وقوله تعالى: ( وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.

وقال الحسن وقتادة: ( وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) بعدهم، فيتقون نقمة الله، ويحذرونها.

وقال السدي، وعطية العوفي: ( وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

قلت: المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي: جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو [عن أبي سلمة] عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" .

وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح. والله أعلم.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

يقول تعالى: واذكروا -يا بني إسرائيل-نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم. [مسألة الإبل تنحر والغنم تذبح واختلفوا في البقر فقيل: تذبح، وقيل: تنحر، والذبح أولى لنص القرآن ولقرب منحرها من مذبحها. قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافا صحيحًا بين ما ينحر أو نحر ما يذبح، غير أن مالكا كره ذلك. وقد يكره الإنسان ما لا يحرم، وقال أبو عبد الله: أعلم أن نـزول قصة البقرة على موسى، عليه السلام، في أمر القتيل قبل نـزول القسامة في التوراة.

بسط القصة] -كما قال ابن أبي حاتم-:

حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى، عليه السلام، فذكروا ذلك له، فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) قال: فلو لم يعترضوا [البقر] لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبًا فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه. ثم مال ميتًا، فلم يعط من ماله شيئًا، فلم يورث قاتل بعد.

ورواه ابن جرير من حديث أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة بنحو من ذلك والله أعلم.

ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون، به.

ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره، عن أبي جعفر -هو الرازي-عن هشام بن حسان، به. وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: أنبأنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيًا، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى، عليه السلام، فقال له: إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحدًا يبين [لي] من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس، فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا، [قال] : فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له: أنت نبي الله فاسأل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله إليه: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) فعجبوا من ذلك، فقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ يعني: لا هرمة وَلا بِكْرٌ يعني: ولا صغيرة عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ أي: نصف بين البكر والهرمة قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا أي: صاف لونها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أي: تعجب الناظرين قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي: لم يذللها العمل تُثِيرُ الأَرْضَ يعني: وليست بذلول تثير الأرض وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ يقول: ولا تعمل في الحرث مُسَلَّمَةٌ يعني: مسلمة من العيوب لا شِيَةَ فِيهَا يقول: لا بياض فيها قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ لما هدوا إليها أبدًا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتًا كما كان، فأخذ قاتله -وهو الذي كان أتى موسى فشكا إليه [مقتله] -فقتله الله على أسوأ عمله.

وقال محمد بن جرير: حدثني ابن سعد حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه [عن جده] عن ابن عباس، في قوله في شأن البقرة: وذلك أن شيخًا من بني إسرائيل على عهد موسى، عليه السلام، كان مكثرًا من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له وبنو أخيه ورثته فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم، أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله، وَتُغْرِمُوا أهل المدينة التي لستم بها ديته، وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما وكان القتيل إذا قتل فطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية، وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم ألا يموت عمهم عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ، فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وإنهم عمدوا إلى موسى، عليه السلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا، وإنه جبريل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى، عليه السلام، فقال: قل لهم: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) فتضربوه ببعضها.

وقال السدي: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرًا من المال وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى، وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته. فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عم انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي، فأدوا إليّ ديته فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه، وينادي: واعماه. فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادع الله لنا حتى يبين لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحيي أن نعير به فذلك حين يقول الله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فقال لهم موسى، عليه السلام: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة. أتهزأ بنا! ( قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا [على] موسى فشدد الله عليهم. فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ والفارض: الهرمة التي لا تلد، والبكر التي لم تلد إلا ولدًا واحدًا. والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا قال: نقي لونها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قال: تعجب الناظرين قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا من بياض ولا سواد ولا حمرة قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فطلبوها فلم يقدروا عليها. وكان رجل في بني إسرائيل، من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائمًا تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفًا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفًا. فقال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفًا، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفًا، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف، فلما أكثر عليه قال: والله لا أشتريه منك بشيء أبدًا، وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبى، فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبى، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى، عليه السلام، فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدناها عند هذا فأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنًا فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم، فأعطوه وزنها ذهبًا، فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبًا، فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها. قال: اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقْتُلُهُ، فآخذُ مالَه، وأنكح ابنتَه. فأخذوا الغلام فقتلوه .

وقال سنيد: حدثنا حجاج، هو ابن محمد، عن ابن جريج، عن مجاهد، وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -دخل حديث بعضهم في حديث بعض-قالوا: إن سبطًا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدًا منهم خارجًا إلا أدخلوه، وإذا افتتحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف، فإذا لم ير شيئًا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. قال: وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير أخيه، فطال عليه حياته فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فأشرف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر، فلم ير شيئًا ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب، فناداه أخو المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب. وكان موسى لما رأى القتل كثيرًا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم، فكاد يكون بين أخى المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح، ثم كف بعضهم عن بعض، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم. قالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب، وقال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور وبنينا مدينة، كما رأيت، نعتزل شرور الناس، والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فقال لهم موسى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) .

وهذه السياقات [كلها] عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها اختلاف ما، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا نصدق ولا نكذب فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا، والله أعلم.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن, ْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم. ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، فقالوا: ( ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ) ما هذه البقرة؟ وأي شيء صفتها؟

قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم .

إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس. وكذا قال عبيدة، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية وغير واحد.

وقال ابن جريج: قال [لي] عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم؛ وايم الله لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم آخر الأبد" .

( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ ) أي: لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني ووهب بن منبه، والضحاك، والحسن، وقتادة، وقاله ابن عباس أيضًا.

وقال الضحاك، عن ابن عباس ( عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ) [يقول: نصف] بين الكبيرة والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون. وروي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وعطاء الخراساني، والضحاك نحو ذلك.

وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي ولدت، وولد ولدها.

وقال هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة وحشية.

وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، وذلك قوله تعالى: ( صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) وكذا قال مجاهد، ووهب بن منبه أنها كانت صفراء.

وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس، أنبأنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: ( بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا ) قال: سوداء شديدة السواد.

وهذا غريب، والصحيح الأول، ولهذا أكد صفرتها بأنه ( فَاقِعٌ لَوْنُهَا )

وقال عطية العوفي: ( فَاقِعٌ لَوْنُهَا ) تكاد تسود من صفرتها.

وقال سعيد بن جبير: ( فَاقِعٌ لَوْنُهَا ) قال: صافية اللون. وروي عن أبي العالية، والربيع بن أنس، والسدي، والحسن، وقتادة نحوه.

وقال شريك، عن مَغْراء عن ابن عمر: ( فَاقِعٌ لَوْنُهَا ) قال: صاف .

وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس: ( فَاقِعٌ لَوْنُهَا ) شديد الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض.

وقال السدي: ( تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) أي: تعجب الناظرين وكذا قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس.

[وفي التوراة: أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم] .


وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 2:05 am

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)

وقوله: ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) أي: لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحِلَّها لنا ( وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ) إذا بينتها لنا ( لَمُهْتَدُونَ ) إليها.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي، ابن أخي منصور بن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: ( وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ) لما أعطوا، ولكن استثنوا" .

ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر، عن سرور بن المغيرة، عن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن حديث أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن بني إسرائيل قالوا: ( وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ) ما أعطوا أبدًا، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا، فشدد الله عليهم" .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة، كما تقدم مثله عن السدي، والله أعلم.

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ ) أي: إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية، بل هي مكرمة حسنة صبيحة ( مُسَلَّمَةٌ ) صحيحة لا عيب فيها ( لا شِيَةَ فِيهَا ) أي: ليس فيها لون غير لونها.

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة ( مُسَلَّمَةٌ ) يقول: لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد ( مُسَلَّمَةٌ ) من الشية.

وقال عطاء الخراساني: ( مُسَلَّمَةٌ ) القوائم والخلق ( لا شِيَةَ فِيهَا ) قال مجاهد: لا بياض ولا سواد. وقال أبو العالية والربيع، والحسن وقتادة: ليس فيها بياض. وقال عطاء الخراساني: ( لا شِيَةَ فِيهَا ) قال: لونها واحد بهيم. وروي عن عطية العوفي، ووهب بن منبه، وإسماعيل بن أبي خالد، نحو ذلك. وقال السدي: ( لا شِيَةَ فِيهَا ) من بياض ولا سواد ولا حمرة، وكل هذه الأقوال متقاربة [في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى: ( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ ) ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال: ( تُثِيرُ الأرْضَ ) أي: يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره]


( قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ) قال قتادة: الآن بَيَّنْتَ لنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وقبل ذلك -والله -قد جاءهم الحق.

( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) قال الضحاك، عن ابن عباس: كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها.

يعني أنَّهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها.

وقال محمد بن كعب، ومحمد بن قيس: ( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ) لكثرة ثمنها.

وفي هذا نظر؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل، كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال عبيدة، ومجاهد، ووهب بن منبه، وأبو العالية، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنهم اشتروها بمال كثير وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمد بن سوقة، عن عكرمة، قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير وهذا إسناد جيد عن عكرمة، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضًا.

وقال ابن جرير: وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه.

ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها، وللفضيحة. وفي هذا نظر، بل الصواب -والله أعلم-ما تقدم من رواية الضحاك، عن ابن عباس، على ما وجهناه. وبالله التوفيق.

مسألة: استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها" . وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.


وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

قال البخاري: ( فَادَّارَأْتُمْ ) اختلفتم. وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، أنه قال في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) اختلفتم.

وقال عطاء الخراساني، والضحاك: اختصمتم فيها. وقال ابن جريج ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) قال: قال بعضهم أنتم قتلتموه.

وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

( وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) قال مجاهد: ما تُغَيبُون. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي، حدثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله: ( وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) هذا البعض أيُّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به.

وخرق العادة به كائن، وقد كان معينا في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكن أبهمه، ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه الله.

ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عفَّان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مَسْكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني القتيل-بعضو منها، فقام تَشْخُب أوداجه دمًا [فسألوه] فقالوا له: من قتلك؟ قال: قتلني فلان .

وكذا قال الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنه ضرب ببعضها.

وفي رواية عن ابن عباس: إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، قال: قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها. وقال معمر: قال قتادة: فضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال: قتلني فلان.

وقال أبو أسامة، عن النضر بن عربي، عن عكرمة: ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) [قال] فضرب بفخذها فقام، فقال: قتلني فلان.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وقتادة، نحو ذلك.

وقال السدي: فضربوه بالبَضْعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه، فقال: قتلني ابن أخي.

وقال أبو العالية: أمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا من عظامها، فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها [وقيل: بلسانها، وقيل: بعجب ذنبها] .

وقوله: ( كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ) أي: فضربوه فحيى. ونَبَّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل: جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والفساد ، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في إحياء الموتى، في خمسة مواضع: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: 56]. وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة.

ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما، كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاء، قال: سمعت وَكِيع بن عُدُس، يحدث عن أبي رَزِين العُقَيلي، قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ قال: "أما مررت بواد مُمْحِل، ثم مررت به خَضِرًا؟" قال: بلى. قال: "كذلك النشور". أو قال: "كذلك يحيي الله الموتى" . وشاهد هذا قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:33-35] .

مسألة: استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثًا بهذه القصة؛ لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال: قتلني فلان، فكان ذلك مقبولا منه؛ لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه، ورجحوا ذلك بحديث أنس: أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكر اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد رأسه بين حجرين وعند مالك: إذا كان لوثًا حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثًا. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) كله ( فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ ) التي لا تلين أبدًا. ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَـزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16].

وقال العوفي، في تفسيره، عن ابن عباس: لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض. فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا . فقال الله: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) يعني: بني أخي الشيخ ( فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريا، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44].

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، لمن خشية الله، نـزل بذلك القرآن.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عَمَّا تدعون إليه من الحق ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )

[وقال أبو علي الجبائي في تفسيره: ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) هو سقوط البرد من

السحاب. قال القاضي الباقلاني: وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل، والله أعلم] .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي، حدثني يحيى بن أبي طالب -يعني يحيى بن يعقوب-في قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ ) قال: هو كثرة البكاء ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ) قال: قليل البكاء ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) قال: بكاء القلب، من غير دموع العين.

وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الآية، وقال: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ و أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ الآية، قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ لَوْ أَنْـزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ الآية، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الآية، وفي الصحيح: "هذا جبل يحبنا ونحبه"، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة، وغير ذلك مما في معناه. وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير؛ أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين.. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر: إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا، وهو يعلم أيهما أكل، وقال آخر: إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا؛ أي لا يخرج عن واحد منهما؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين. والله أعلم.

تنبيه:

اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: ( فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: "أو" هاهنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24] ، وكما قال النابغة الذبياني:

قــالت ألا ليتمـا هـذا الحمـامُ لنـا

إلــى حَمامتنــا أو نِصفُــه فَقـدِ


تريد: ونصفه، قاله ابن جرير. وقال جرير بن عطية:

نـال الخِلافَـةَ أو كـانت لـه قـدرًا

كمـا أتـى ربَّـه مُوسـى عـلى قَدَرِ


قال ابن جرير: يعني نال الخلافة، وكانت له قدرًا.

وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو: أنها للإبهام وبالنسبة إلى المخاطب، كقول القائل: أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل، وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل: أكلي حلو أو حامض، أي: لا يخرج عن واحد منهما، أي: وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم.

وقال آخرون: "أو" هاهنا بمعنى بل، تقديره فهي كالحجارة بل أشد قسوة، وكقوله: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: 77] وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم: 9] وقال آخرون: معنى ذلك ( فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) عندكم. حكاه ابن جرير.

وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود:


أحـــبّ محــمدًا حُبــا شــديدًا

وعبَّاســـا وحـــمزةَ والوصيــا

فــإن يــك حُـبّهم رشـدا أصبـه

ولســت بمخطـئ إن كـان غيّـا


قال ابن جرير: قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أن حُبّ من سَمَّى رَشَدٌ، ولكنه أبهم على من خاطبه، قال: وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت؟ فقال: كلا والله. ثم انتزع بقول الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فقال: أوَ كان شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال ؟

وقال بعضهم: معنى ذلك: فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة.

قال ابن جرير: ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة. وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره.

قلت: وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة: 17] مع قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة: 19] وكقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور: 39] مع قوله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور: 40]، الآية أي: إن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله أعلم.

قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، حدثنا علي بن حفص، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي".

رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، صاحب الإمام أحمد، به. ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب، به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم .

[وروى البزار عن أنس مرفوعا: "أربع من الشقاء: جمود العين، وقسي القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا" ]. .


أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)

يقول تعالى: ( أَفَتَطْمَعُونَ ) أيها المؤمنون ( أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) أي: ينقاد لكم بالطاعة، هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود، الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ) أي: يتأولونه على غير تأويله ( مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ) أي: فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة ( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله؟ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة: 13]. .

قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم: ( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ) وليس قوله: ( يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ) يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها. ولكن الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.

قال محمد بن إسحاق: فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله تعالى، فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال: نعم، مُرْهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا، فوقعوا سجودًا، وكلمه ربه تعالى، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا عنه ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاؤوهم حَرَّف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا. قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا خلافًا لما قال الله عز وجل لهم، فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وقال السدي: ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ) قال: هي التوراة، حرفوها.

وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق. فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن ‌عمران، عليه الصلاة والسلام ، وقد قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6]، أي: مبلَّغًا إليه؛ ولهذا قال قتادة في قوله: ( ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه.

وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم.

وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنـزل الله في كتابهم، من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، فحرفوه عن مواضعه.

وقال السدي: ( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أي أنهم أذنبوا. وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: ( يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ) قال: التوراة التي أنـزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقًا؛ إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإن جاءهم أحد يسألهم شيئًا ليس فيه حق، ولا رشوة، ولا شيء، أمروه بالحق، فقال الله لهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44].

وقوله: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ) الآية .

قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ) أي بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. ( وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا ) لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. فأنـزل الله: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ) أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر، ونجد في كتابنا. اجحدوه ولا تقروا به. يقول الله تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .

وقال الضحاك، عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.

وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة وغير واحد من السلف والخلف، حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فيما رواه ابن وهب عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن". فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا: آمنا، واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر، ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قول الله تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: 72]


وكانوا يقولون، إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره. فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم [يعني الرؤساء] قالوا: ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) الآية .

وقال أبو العالية: ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) يعني: بما أنـزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ) قال: كانوا يقولون: سيكون نبي. فخلا بعضهم ببعض فقالوا: ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) .

قول آخر في المراد بالفتح: قال ابن جُرَيج: حدثني القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد، في قوله تعالى: ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: "يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت"، فقالوا: من أخبر بهذا الأمر محمدًا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) بما حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج، عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وقال السدي: ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) من العذاب ( لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ) هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عُذِّبوا به. فقال بعضهم لبعض: ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم.

وقال عطاء الخراساني: ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) يعني: بما قضى [الله] لكم وعليكم.

وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود، كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم، فيحاجوكم به عند ربكم، فيخصموكم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران   تفسير ابن كثير للقران Icon_minitime1الخميس أبريل 26, 2012 2:07 am

أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

" < 1-310 > "

وقوله: ( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وهو يجدونه مكتوبًا عندهم. وكذا قال قتادة.

وقال الحسن: ( أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ) قال: كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم، خشيةَ أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم. ( وَمَا يُعْلِنُونَ ) يعني: حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: آمنا. وكذا قال أبو العالية، والربيع، وقتادة .

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

يقول تعالى: ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ) أي: ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد: والأميون جمع أمي، وهو: الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قاله أبو العالية، والربيع، وقتادة، وإبراهيم النَّخَعي، وغير واحد وهو ظاهر في قوله تعالى: ( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [إِلا أَمَانِيَّ] ) أي: لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمي؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة، كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] وقال عليه الصلاة والسلام: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا" الحديث. أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] .

وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يَخُط من الرجال إلى أمِّه في جهله بالكتاب دون أبيه، قال: وقد روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما قول خلاف هذا، وهو ما حدثنا به أبو كُرَيب: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ) قال: الأميون قوم لم يصدِّقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابًا أنـزله الله، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سَفلة جُهَّال: ( هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله. ثم قال ابن جرير: وهذا التأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم. وذلك أن الأمي عند العرب: الذي لا يكتب .

قلت: ثم في صحة هذا عن ابن عباس، بهذا الإسناد، نظر. والله أعلم.

" < 1-311 > "

قوله تعالى: ( إِلا أَمَانِيَّ ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ( إِلا أَمَانِيَّ ) إلا أحاديث.

وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: ( إِلا أَمَانِيَّ ) يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبًا. وقال مجاهد: إلا كذبًا. وقال سنيد، عن حجاج، عن ابن جريج عن مجاهد: ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ ) قال: أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون: هو من الكتاب، أمانيّ يتمنونها. وعن الحسن البصري، نحوه.

وقال أبو العالية، والربيع وقتادة: ( إِلا أَمَانِيَّ ) يتمنون على الله ما ليس لهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( إِلا أَمَانِيَّ ) قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم.

قال ابن جرير: والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس، وقال مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله أنهم لا يفقهون من الكتاب -الذي أنـزل الله على موسى -شيئًا، ولكنهم يَتَخَرَّصُون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذبًا وزورًا. والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه. ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ما تغنيت ولا تمنيت". يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب .

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ) ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظن.

وقال مجاهد: ( وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ) يكذبون.

وقال قتادة: وأبو العالية، والربيع: يظنون الظنون بغير الحق.

وقوله: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا ) الآية: هؤلاء صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل.

والويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وقال سفيان الثوري، عن زياد بن فياض: سمعت أبا عياض يقول: ويل: صديد في أصل جهنم.

وقال عطاء بن يسار. الويل: واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت.

" < 1-312 > "

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ويل واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره".

ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن دراج، به . وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

قلت: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد -مرفوعًا-منكر، والله أعلم.

وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح العشيري حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) قال: "الويل جبل في النار" . وهو الذي أنـزل في اليهود؛ لأنهم حَرَّفوا التوراة، زادوا فيها ما أحبوا، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة. ولذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال: ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) .

وهذا غريب أيضا جدًا.

[وعن ابن عباس: الويل: السعير من العذاب، وقال الخليل بن أحمد: الويل: شدة الشر، وقال سيبويه: ويل: لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها، وقال الأصمعي: الويل: تفجع والويل ترحم، وقال غيره: الويل الحزن . وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب، ومنهم من فرق بينها، وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأن فيها معنى الدعاء، ومنهم من جوز نصبها، بمعنى: ألزمهم ويلا. قلت: لكن لم يقرأ بذلك أحد] .

وعن عكرمة، عن ابن عباس: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ) قال: هم أحبار اليهود. وكذا قال سعيد، عن قتادة: هم اليهود.

وقال سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ) قال: نـزلت في المشركين وأهل الكتاب.

وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم، يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا به ثمنًا قليلا.

" < 1-313 > "

وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنـزل الله على نبيه، أحدث أخبار الله تقرؤونه محضًا لم يشب؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا؛ أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنـزل إليكم. رواه البخاري من طرق عن الزهري.

وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها.

وقوله تعالى: ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان، والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس: ( فَوَيْلٌ لَهُمْ ) يقول: فالعذاب عليهم، من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، ( وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80)

يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم، من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله: ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا ) أي: بذلك؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده .

ولكن هذا ما جرى ولا كان. ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى: بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.

قال محمد بن إسحاق، عن سيف بن سليمان عن مجاهد، عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نُعَذَّب بكل ألف سنة يومًا في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة . فأنـزل الله تعالى: ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ) إلى قوله: خَالِدُونَ [البقرة: 82].

ثم رواه عن محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن عباس، بنحوه.

وقال العوفي عن ابن عباس: ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ) اليهود قالوا : لن " < 1-314 > " تمسنا النار إلا أربعين ليلة، [زاد غيره: هي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة] .

وقال الضحاك: قال ابن عباس: زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبًا: أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، التي هي نابتة في أصل الجحيم. وقال أعداء الله: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. فذلك قوله تعالى: ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً )

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ) يعني: الأيام التي عبدنا فيها العجل .

وقال عكرمة: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا إليها قوم آخرون، يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم إليها أحد". فأنـزل الله: ( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ) الآية.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر، حدثنا محمد بن محمد بن صخر، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا ليث بن سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم؟" قالوا: فلان . قال: "كذبتم، بل أبوكم فلان". فقالوا: صدقت وبَرِرْت، ثم قال لهم: "هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟". قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار؟" فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسأوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا". ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟". قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟". فقالوا: نعم. قال : "فما حملكم على ذلك؟". فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك.

ورواه أحمد، والبخاري، والنسائي، من حديث الليث بن سعد، بنحوه .

" < 1-315 > "

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)

يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع عمله سيئات، فهذا من أهل النار، والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات -من العمل الموافق للشريعة-فهم من أهل الجنة. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء: 123 ، 124].

قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن عباس: ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ) أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط به كفره فما له من حسنة.

وفي رواية عن ابن عباس، قال: الشرك.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، نحوه .

وقال الحسن -أيضًا-والسدي: السيئة: الكبيرة من الكبائر.

وقال ابن جريج، عن مجاهد: ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) قال: بقلبه.

وقال أبو هريرة، وأبو وائل، وعطاء، والحسن: ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) قالوا: أحاط به شركه.

وقال الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خُثَيم: ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) قال: الذي يموت على خطايا من قبل أن يتوب. وعن السدي، وأبي رزين، نحوه.

وقال أبو العالية، ومجاهد، والحسن، في رواية عنهما، وقتادة، والربيع بن أنس: ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) الكبيرة الموجبة.

وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم. ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:

حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله " < 1-316 > " بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهُنَّ مثلا كمثل قوم نـزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا ، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها .

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد، عن سعيد -أو عكرمة-عن ابن عباس: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم على أهله، لا انقطاع له أبدًا .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

يُذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تعالى، أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن الله تعالى بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14] وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية إلى أن قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء: 23-26] وفي الصحيحين، عن ابن مسعود، قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" . ولهذا جاء في الحديث الصحيح: أن رجلا قال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: "أمك". قال: ثم من ؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أباك . ثم أدناك أدناك" .

" < 1-317 > "

[وقوله: ( لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ) قال الزمخشري: خبر بمعنى الطلب، وهو آكد. وقيل: كان أصله: ألا تعبدوا كما قرأها بعض السلف فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أبي وابن مسعود، رضي الله عنهما، أنهما قرآها: "لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّه". وقيل: ( لا تَعْبُدُونَ ) مرفوع على أنه قسم، أي: والله لا تعبدون إلا الله، ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه. وقال: اختاره المبرد والكسائي والفراء] .

قال: ( وَالْيَتَامَى ) وهم: الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء. [وقال أهل اللغة: اليتيم في بني آدم من الآباء، وفي البهائم من الأم، وحكى الماوردي أن اليتيم أطلق في بني آدم من الأم أيضا] ( وَالْمَسَاكِينَ ) الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء، التي أمرنا الله تعالى بها صريحًا في قوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية [النساء: 36].

وقوله تعالى: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) أي: كلموهم طيبًا، ولينُوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري في قوله: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) فالحُسْن من القول: يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل خُلُق حسن رضيه الله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو عامر الخَزَّاز، عن أبي عمران الجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحقرن من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فَالْقَ‏ أخاك بوجه منطلق " .

وأخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي [وصححه] من حديث أبي عامر الخزّاز، واسمه صالح بن رستم، به .

وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي. ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمُعيّن من ذلك، وهو الصلاة والزكاة، فقال: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي: تركوه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به، إلا القليل منهم، وقد أمر تعالى هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء، بقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا [النساء: 36]

" < 1-318 > "

فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة.

ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره:

حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا عبد الله بن يوسف -يعني التِّنِّيسِي-حدثنا خالد بن صَبِيح، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وَدَاعة: أنه كان يخرج من منـزله فلا يلقى يهوديًا ولا نصرانيًا إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك؟ تسلم على اليهودي والنصراني. فقال: إن الله يقول: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) وهو: السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني، نحوه.

قلت: وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدؤون بالسلام، والله أعلم .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
 
تفسير ابن كثير للقران
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير ابن كثير للقران 5
» تفسير ابن كثير للقران 2
» تفسير ابن كثير للقران 46 سورة القتال
» تفسير ابن كثير للقران6
» تفسير ابن كثير للقران6تكمله

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مملكة الياسر العظمة لعلوم الفلك والروحانيات Astronomy and Spirituality treat all kinds of magic :: الفئة الأولى :: المنتدى الأول-
انتقل الى:  
Place holder for NS4 only
pubacademy.ace.st--!>
pubacademy.ace.st--!>