قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
يقول تعالى مخبرًا عن قيل يعقوب لابنه يوسف حين قَصّ عليه ما رأى من هذه الرؤيا، التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدًا، بحيث يخرون له ساجدين إجلالا وإكراما واحتراما فخشي يعقوب، عليه السلام، أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدوه على ذلك، فيبغوا له الغوائل، حسدا منهم له؛ ولهذا قال له: ( لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ) أي: يحتالوا لك حيلةً يُرْدُونَك فيها. ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به، وإذا رأى ما يكره فليتحوَّل إلى جنبه الآخر وليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحدًا، فإنها لن تضره" . وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد، وبعض أهل السنن، من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر، فإذا عُبرت وقعت" ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث: "استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود"
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لولده يوسف: إنه كما اختارك ربك، وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، ( كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ) أي: يختارك ويصطفيك لنبوته، ( وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) قال مجاهد وغير واحد: يعني تعبير الرؤيا.
( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) أي: بإرسالك والإيحاء إليك؛ ولهذا قال: ( كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ ) وهو الخليل، ( وَإِسْحَاقَ ) ولده، وهو الذبيح في قول، وليس بالرجيح، ( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي: [هو] أعلم حيث يجعل رسالاته، كما قال في الآية الأخرى.
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
يقول تعالى: لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات، أي عبرةٌ ومواعظُ للسائلين عن ذلك، المستخبرين عنه، فإنه خبر عجيب، يستحق أن يستخبر عنه، ( إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا ) أي: حلفوا فيما يظنون: والله ليوسف وأخوه -يعنون بنيامين، وكان شقيقه لأمه -( أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) أي: جماعة، فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة؛ ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يعنون في تقديمهما علينا، ومحبته إياهما أكثر منا.
واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر. ويحتاج مُدّعي ذلك إلى دليل، ولم يذكروا سوَى قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة: 136]، وهذا فيه احتمال؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم: الأسباط، كما يقال للعرب: قبائل، وللعجم: شعوب؛ يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم، والله أعلم.
( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) يقولون: هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم، أعدموه من وجه أبيكم، ليخلو لكم وحدكم، إما بأن تقتلوه، أو تلقوه في أرض من الأراضي -تستريحوا منه، وتختلوا أنتم بأبيكم، وتكونوا من بعد إعدامه قوما صالحين. فأضمروا التوبة قبل الذنب.
( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ) قال قتادة، ومحمد بن إسحاق: كان أكبرهم واسمه روبيل. وقال السدي: الذي قال ذلك يهوذا. وقال مجاهد: هو شمعون ( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ) أي: لا تَصِلوا في عداوته وبغضه إلى قتله، ولم يكن لهم سبيلٌ إلى قتله؛ لأن الله تعالى كان يريد منه أمرًا لا بدّ من إمضائه وإتمامه، من الإيحاء إليه بالنبوة، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب، وهو أسفله.
قال قتادة: وهي بئر بيت المقدس.
( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ) أي: المارة من المسافرين، فتستريحوا بهذا، ولا حاجة إلى قتله.
( إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) أي: إن كنتم عازمين على ما تقولون.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: لقد اجتمعوا على أمر عظيم، من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الضَّرَع الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل، وخطره عند الله، مع حق الوالد على ولده، ليفرقوا بينه وبين ابنه وحبيبه، على كبر سنه، ورِقَّة عظمه، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا، وبين أبيه على ضعف قوته وصغر سنه، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمرا عظيما.
رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل، عنه.
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
لما تواطئوا على أخذه وطَرْحه في البئر، كما أشار عليهم أخوهم الكبير رُوبيل، جاءوا أباهم يعقوب، عليه السلام، فقالوا: ( يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) وهذه توطئة وسلف ودعوى، وهم يريدون خلاف ذلك؛ لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له، ( أَرْسِلْهُ مَعَنَا ) أي: ابعثه معنا، ( غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ ) وقرأ بعضهم بالياء ( يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ )
قال ابن عباس: يسعى وينشط. وكذا قال قتادة، والضحاك والُّسدِّي، وغيرهم.
( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) يقولون: ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك.
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
يقول تعالى مخبرا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء: ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ) أي: يشق علي مفارقتُهُ مدة ذهابكم به إلى أن يرجع، وذلك لفَرْط محبته له، لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وشمائل النبوة والكمال في الخُلُق والخلق، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: ( وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) يقول: وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورَعْيتكم فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون، فأخذوا من فمه هذه الكلمة، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين عنها في الساعة الراهنة: ( لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ) يقولون: لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، ونحن جماعة، إنا إذًا لهالكون عاجزون.