تفسير سورة الجاثية
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
يُرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات الأرض، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس، والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وما أنـزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه، وسماه رزقًا؛ لأن به يحصل الرزق، ( فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) أي: بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء.
وقوله: ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) أي: جنوبا وشآما ، ودبورًا وصبًا، بحرية وبرية، ليلية ونهارية. ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح، ومنها ما هو غذاء للأرواح، ومنها ما هو عقيم [لا ينتج] .
وقال أولا ( لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ، ثم ( يوقنون ) ثم ( يعقلون ) وهو تَرَقٍّ من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى. وهذه الآيات شبيهة بآية "البقرة" وهي قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ البقرة: 164 ]. وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا عن وهب بن مُنَبِّه أثرا طويلا غريبًا في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة.
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
"< 7-265 >"
يقول تعالى: هذه آيات الله -يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات- ( نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ) أي: متضمنة الحق من الحق، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟!
ثم قال: ( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) أي: أفاك في قوله كذاب، حلاف مهين أثيم في فعله وقيله كافر بآيات الله؛ ولهذا قال: ( يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ) أي: تقرأ عليه ( ثُمَّ يُصِرُّ ) أي: على كفره وجحوده استكبارًا وعنادا ( كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ) أي: كأنه ما سمعها، ( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [أي] فأخبره أن له عند الله يوم القيامة عذابا أليما موجعا.
( وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ) أي: إذا حفظ شيئًا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا، ( أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي: في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو .
ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال: ( مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ) أي: كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة، ( وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا ) أي: لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم، ( وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ) أي: ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئًا، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
ثم قال تعالى: ( هَذَا هُدًى ) يعني القرآن ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ) وهو المؤلم الموجع.
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر ( لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ ) ، وهي السفن فيه بأمره تعالى، فإنه هو الذي أمر البحر أن يحملها ( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي: في المتاجر والمكاسب، ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي: على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية.
"< 7-266 >"
ثم قال تعالى: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) أي: من الكواكب والجبال، والبحار والأنهار، وجميع ما تنتفعون به، أي: الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه؛ ولهذا قال: ( جَمِيعًا مِنْهُ ) أي: من عنده وحده لا شريك له في ذلك، كما قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [ النحل: 53 ] .
وروى ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ) كل شيء هو من الله، وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه، فذلك جميعا منه، ولا ينازعه فيه المنازعون، واستيقن أنه كذلك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن خَلَف العسقلاني، حدثنا الفِرْياني، عن سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهال بن عمرو، عن أبي أراكة قال: سأل رجل عبد الله بن عمرو قال: مم خلق الخلق؟ قال: من النور والنار، والظلمة والثرى. قال وائت ابن عباس فاسأله. فأتاه فقال له مثل ذلك، فقال: ارجع إليه فسله: مم خلق ذلك كله؟ فرجع إليه فسأله، فتلا ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ) هذا أثر غريب، وفيه نكارة.
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )