تفسير سورة فصلت
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
حم(1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5)
يقول تعالى: ( حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) يعني: القرآن منـزل من الرحمن الرحيم، كقوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102]، وقوله: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 192 -194].
وقوله: ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ) أي: بُينت معانيه وأحكمت أحكامه ، ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا ) أي: في حال كونه لفظا عربيا، بينا واضحا، فمعانيه مفصلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، كقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] أي: هو معجز من حيث لفظه ومعناه، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42].
وقوله: ( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) أي: إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماءُ الراسخون، ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) أي: تارة يبشر المؤمنين، وتارة ينذر الكافرين، ( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) أي: أكثر قريش، فهم لا يفهمون منه شيئا مع بيانه ووضوحه.
( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ ) أي: في غلف مغطاة ( مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ) أي: صمم عما جئتنا به، ( وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ) فلا يصل إلينا شيء مما تقول، ( فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ) أي: اعمل أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا لا نتابعك.
قال الإمام العَلَم عبد بن حُمَيد في مسنده: حدثني ابن أبي شيبة، حدثنا علي بن مُسْهِر عن الأجلح، عن الذَّيَّال بن حَرْمَلة الأسدي عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعْلَمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سَخْلةً قط أشأم على قومك منك؛ فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا! والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحُبْلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى! أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش [شئت] فلنـزوجك عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَرَغْتَ؟" قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) حتى بلغ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فقال عتبة: حسبك! حسبك! ما عندك غير هذا؟ قال: "لا" فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ [قال: نعم، قالوا: فما قال؟] قال: لا والذي نصبها بَنيَّةً ما فَهِمْتُ شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك! يكلمك الرجل بالعربية ما تدري ما قال؟! قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده، مثله سواء .
وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فُضَيل، عن الأجلح -وهو ابن عبد الله الكندي [الكوفي] -وقد ضُعِّفَ بعض الشيء عن الذّيَّال بن حرملة، عن جابر، فذكر الحديث إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم. فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صَبَا إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة [قد] أصابته، فانطلقوا بنا إليه. فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد. فغضب عتبة، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا، وقال: والله، لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه [القصة] فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فأمسكت بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينـزل بكم العذاب .
وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى، والله أعلم.
وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط، فقال:
حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي قال: حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة -وكان سيدا-قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه .فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد، أسمع". قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالا . وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه -أو كما قال له-حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: "أفرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم . قال: "فاستمع مني" قال: أفعل. قال: ( بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: أقسم -يحلف بالله-لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم .
وهذا السياق أشبه من الذي قبله، والله أعلم.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(
يقول تعالى: ( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين: ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين، إنما الله إله واحد، ( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ) أي: أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل، ( وَاسْتَغْفِرُوهُ ) أي: لسالف الذنوب، ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) أي: دمار لهم وهلاك عليهم،
( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله. وكذا قال عكرمة.
وهذا كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9، 10]، وكقوله : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14، 15]، وقوله : فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [ النازعات : 18 ] والمراد بالزكاة هاهنا: طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة، ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك. وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام، وتكون سببا لزيادته وبركته وكثرة نفعه، وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات.
وقال السدي: ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) أي: الذين لا يَدِينون بالزكاة.
وقال معاوية بن قرة: ليس هم من أهل الزكاة.
وقال قتادة: يمنعون زكاة أموالهم.
وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير. وفيه نظر؛ لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة، على ما ذكره غير واحد وهذه الآية مكية، اللهم إلا أن يقال: لا يبعد أن يكون أصل الزكاة الصدقة كان مأمورا به في ابتداء البعثة، كقوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141]، فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بَيَّن أمرها بالمدينة، ويكون هذا جمعا بين القولين، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله على رسوله [صلى الله عليه وسلم] الصلوات الخمس، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئا، والله أعلم.
ثم قال بعد ذلك: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) قال مجاهد وغيره: لا مقطوع ولا مجبوب ، كقوله: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف: 3]، وكقوله تعالى : عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] .
وقال السدي: غير ممنون عليهم. وقد رد عليه بعض الأئمة هذا التفسير، فإن المنة لله على أهل الجنة؛ قال الله تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات: 17]، وقال أهل الجنة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور: 27]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا معه غيره، وهو الخالق لكل شيء، القاهر لكل شيء، المقدر لكل شيء، فقال: ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ) أي: نظراء وأمثالا تعبدونها معه ( ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) أي: الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم.
وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الأعراف: 54]، ففصل هاهنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء، فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها كالأساس، والأصل أن يُبْدَأَ بالأساس، ثم بعده بالسقف، كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ سَمَاوَاتٍ الآية [البقرة: 29]، .
فأما قوله: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ [ النازعات : 27-33 ] ففي هذه الآية أن دَحْى الأرض كان بعد خلق السماء ، فالدَّحْيُ هو مفسر بقوله: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ، وكان هذا بعد خلق السماء، فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص، وبهذا أجاب ابن عباس فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه، فإنه قال:
وقال المنهال، عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101]، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات: 27]، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42]، وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23]، فقد كتموا في هذه الآية؟ وقال: أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا إلى قوله: دَحَاهَا [النازعات: 27 -30]، فذكر خلق السماء قبل [خلق] الأرض ثم قال: ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) إلى قوله: ( طَائِعِينَ ) فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء؟ وقال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 96]، عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56]، سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58]، فكأنه كان ثم مضى.
قال -يعني ابن عباس-: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر: 68]، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الأخرى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ
وأما قوله: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون: تعالوا نقول: "لم نكن مشركين"، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك يعرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية [الحجر: 2] .
وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء، فسواهن في يومين آخرين، ثم دَحَى الأرض، ودَحْيُها: أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: دَحَاهَا وقوله ( خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) فَخُلِقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين.
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 96]، سمى نفسه بذلك، وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلفن عليك القرآن، فإن كلا من عند الله عز وجل.
قال البخاري: حدثنيه يوسف بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، عن المنهال -هو ابن عمرو-بالحديث .
فقوله: ( خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) يعني: يوم الأحد ويوم الاثنين.
( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ) أي: جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس، ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) ، وهو: ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس، يعني: يوم الثلاثاء والأربعاء، فهما مع اليومين السابقين أربعة؛ ولهذا قال تعالى: ( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) أي: لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه.
وقال مجاهد وعكرمة في قوله: ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها، ومنه: العصب باليمن، والسابري بسابور والطيالسة بالرّي.
وقال ابن عباس، وقتادة، والسدي في قوله تعالى: ( سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) أي: لمن أراد السؤال عن ذلك.
وقال ابن زيد: معناه ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) أي: على وفق مراد من له حاجة إلى رزق أو حاجة، فإن الله قدر له ما هو محتاج إليه.
وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم: 34]، والله أعلم.
وقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) ، وهو: بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض، ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) أي: استجيبا لأمري، وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين.
قال الثوري، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله [تعالى] ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) قال: قال الله تعالى للسماوات: أطلعي شمسي وقمري ونجومي. وقال للأرض: شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك. فقالتا: ( أَتَيْنَا طَائِعِينَ )
واختاره ابن جرير -رحمه الله.
( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) أي: بل نستجيب لك مطيعين بما فينا، مما تريد خلقه من الملائكة والإنس والجن جميعا مطيعين لك. حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال: وقيل: تنـزيلا لهن معاملة من يعقل بكلامهما.
وقيل إن المتكلم من الأرض بذلك هو مكان الكعبة، ومن السماء ما يسامته منها، والله أعلم.
وقال الحسن البصري: لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه. رواه ابن أبي حاتم.