وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) أي: " < 7-369 > " لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة.
ثم قال داعيا لهم إلى التوبة والإنابة: ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
وقد ذُكر أنها نـزلت في الأقرع بن حابس التميمي، فيما أورده غير واحد، قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وُهَيْب، حدثنا موسى بن عقبة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس؛ أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، فقال: يا محمد، يا محمد -وفي رواية: يا رسول الله-فلم يجبه. فقال: يا رسول الله، إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: " ذاك الله، عز وجل" .
وقال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حُرَيْث المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قال: جاء رجل رسول الله فقال: يا محمد، إن حمدي زين، وذمي شين. فقال: "ذاك الله، عز وجل" .
وهكذا ذكره الحسن البصري، وقتادة مرسلا.
وقال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عَمْرَة قال: كان بِشْر بن غالب ولَبِيد بن عُطَارِد -أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب-وهما عند الحجاج جالسان-فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نـزلت في قومك بني تميم: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات : 17] ، قالوا: أسلمنا، ولم يقاتلك بنو أسد .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عَمرو بن علي الباهلي، حدثنا المعتمر بن سليمان: سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم البجلي ، عن زيد بن أرقم قال: اجتمع أناس من العرب فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش بجناحه. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد. فأنـزل الله [عز وجل] : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها، فجعل يقول: "لقد صدق الله قولك يا زيد، لقد صدق الله قولك يا زيد".
" < 7-370 > "
ورواه ابن جرير، عن الحسن بن عرفة، عن المعتمر بن سليمان، به .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (
.
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاطَ له، لئلا يحكم بقوله فيكون -في نفس الأمر-كاذبًا أو مخطئًا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال. وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نـزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضِرَار، والد جُويرية بنت الحارث أم المؤمنين، رضي الله عنها، قال الإمام أحمد:
حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله، أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، ويُرسل إليَّ رسول الله رسولا لإبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمَعتُ من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سُخْطة من الله ورسوله، فدعا بسَرَوات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وَقَّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَق -أي: خاف-فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفَصَل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث، فلما " < 7-371 > " غشيهم قال لهم: إلى من بُعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بَتَّةً ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟" . قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله. قال: فنـزلت الحجرات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) إلى قوله: ( حكيم ) .
ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار، عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق، به ، غير أنه سماه الحارث بن سرار، والصواب: الحارث بن ضرار، كما تقدم.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جعفر بن عَوْن، عن موسى بن عبيدة، عن ثابت مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة ، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول الله فقال: إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. قالت: فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلا مصدقًا، فسررنا بذلك، وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر، قالت: ونـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) .
وروى ابن جرير أيضا من طريق العَوْفي، عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما حُدِّثَ الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهمّ بهم، فأنـزل الله عذرهم في الكتاب، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) إلى آخر الآية .
" < 7-372 > "
وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليُصدّقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك -زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام-فبعث رسول الله خالد بن الوليد إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنـزل الله هذه الآية. قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التَّبيُّن من الله، والعَجَلَة من الشيطان".
وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم: ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل بن حَيَّان، وغيرهم في هذه الآية: أنها نـزلت في الوليد بن عقبة، والله أعلم .
وقوله: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) أي: اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظِّموه ووقروه، وتأدبوا معه، وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتمّ من رأيكم لأنفسكم، كما قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب : 6] .
ثم بَيَّن [تعالى] أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: ( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ ) أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحَرَجكم، كما قال تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون : 71] .
وقوله: ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.
قال الإمام أحمد: حدثنا بَهْز، حدثنا علي بن مَسْعَدة، حدثنا قتادة، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب" قال: ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات، ثم يقول: "التقوى هاهنا، التقوى هاهنا" .
( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق، وهي: الذنوب " < 7-373 > " الكبار. والعصيان وهي جميع المعاصي. وهذا تدريج لكمال النعمة.
وقوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) أي: المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون، الذين قد آتاهم الله رشدهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي، عن ابن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي، عز وجل" فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: "اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضل لمن هديت. ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت. ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم، إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيْلَة، والأمن يوم الخوف. اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم، توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم، قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق".
ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب، عن مَرْوَان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عُبَيْد بن رِفاعة، عن أبيه، به .
وفي الحديث المرفوع: "من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن" .
ثم قال: ( فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ) أي: هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي: عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره.
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) " < 7-374 > "
يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين المسلمين الباغين بعضهم على بعض: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم. وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" . فكان كما قال، صلوات الله وسلامه عليه، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة.
وقوله: ( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) أي: حتى ترجع إلى أمر الله وتسمع للحق وتطيعه، كما ثبت في الصحيح عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قلت: يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يحدث: أن أنسًا قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك" فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك. قال: فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنـزلت فيهم: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .
ورواه البخاري في "الصلح" عن مُسَدَّد، ومسلم في "المغازي" عن محمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، به نحوه .
وذكر سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال، فأنـزل الله هذه الآية، فأمر بالصلح بينهما.
وقال السدي: كان رجلا من الأنصار يقال له: "عمران"، كانت له امرأة تدعى أم زيد ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلَيَّة له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنـزلوها لينطلقوا بها، وإن الرجل قد كان خرج، فاستعان أهل الرجل، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنـزلت فيهم هذه " < 7-375 > " الآية. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم، وفاءوا إلى أمر الله.
وقوله: ( فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) أي: اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض، بالقسط، وهو العدل، ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عبد الأعلى، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن، بما أقسطوا في الدنيا".
ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، به . وهذا إسناده جيد قوي، رجاله على شرط الصحيح.
وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وَلُوا".
ورواه مسلم والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، به .
وقوله: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) أي: الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" . وفي الصحيح: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" . وفي الصحيح أيضا: "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين، ولك بمثله" . والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح: "مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر". وفي الصحيح أيضا: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه .
وقال أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، حدثنا عبد الله، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن من أهل الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس" . تفرد به ولا بأس بإسناده.
" < 7-376 > "
وقوله: ( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) يعني: الفئتين المقتتلتين، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي: في جميع أموركم ( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) ، وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس" ويروى: "وغمط الناس" والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ ولهذا قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ) ، فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء.
وقوله: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي: لا تلمزوا الناس . والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال [تعالى] : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة : 1] ، فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم : 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي: اللمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) ، كما قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء : 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضا .
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي: لا يطعن بعضكم على بعض.
وقوله: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: حدثني أبو جَبِيرة بن الضحاك قال: فينا نـزلت في بني سلمة: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دُعِىَ أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا. فنـزلت: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ )
ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، عن وُهَيْب، عن داود، به .
وقوله: ( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ) أي: بئس الصفة والاسم الفسوق وهو: التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون، بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه، ( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ ) " < 7-377 > " أي: من هذا ( فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .