مملكة الياسر العظمة لعلوم الفلك والروحانيات Astronomy and Spirituality treat all kinds of magic
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مملكة الياسر العظمة لعلوم الفلك والروحانيات Astronomy and Spirituality treat all kinds of magic


الرئيسيةalyasserأحدث الصورالتسجيلدخول
مرحبا بك يازائر فى مملكة الياسر العظمة لعلوم الفلك والروحانيات والعلاج بالقران والاعشاب نقوم بادن الله بعلاج جميع انواع السحر السحر العلوى والسحر السفلى المحروق والمرشوش والمدفون والماكول والمشروب وسحر التخيل وسحر الجنون وسحر الهواتف والرقية الشرعية دكتورة فى علوم الفلك والروحانيات للتواصل معنا والاستعلام على الايميل Sakr11111@yahoo.com

 

 تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Empty
مُساهمةموضوع: تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح   تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Icon_minitime1الثلاثاء يونيو 26, 2012 12:48 pm


تفسير سورة الفتح


وهي مكية

قال الإمام أحمد حدثنا وَكِيع، حدثنا شُعْبَة، عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجَّع فيها -قال معاوية: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته، أخرجاه من حديث شعبة به .

بسم الله الرحمن الرحيم


إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) .

نـزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله. فلما نحر هديه حيث أحصر، ورجع، أنـزل الله، عز وجل، هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روى عن ابن مسعود، رضي الله عنه، وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.

وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية .

وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر. فنـزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا .

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قال: فسألته عن شيء -ثلاث مرات-فلم " < 7-326 > " يرد علي، قال: فقلت لنفسي: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، نـزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك؟ قال: فركبت راحلتي فتقدمت مخافة أن يكون نـزل في شيء، قال: فإذا أنا بمناد ينادي: يا عمر، أين عمر؟ قال: فرجعت وأنا أظن أنه نـزل في شيء، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نـزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )" .

ورواه البخاري، والترمذي، والنسائي من طرق، عن مالك، رحمه الله ، وقال علي بن المديني: هذا إسناد مديني [جيد] لم نجده إلا عندهم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) مرجعه من الحديبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنـزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض"، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هنيئا مريئا يا نبي الله، لقد بين الله، عز وجل، ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنـزلت عليه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ حتى بلغ: فَوْزًا عَظِيمًا [الفتح : 5]، أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به .

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا مُجَمِّعُ بن يعقوب، قال: سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري -وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن-قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) ، قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله، وفتح هو؟ قال: "إي والذي نفس محمد بيده، إنه لفتح". فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما.

رواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى، عن مجمع بن يعقوب، به .

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا أبو بحر، حدثنا شعبة، حدثنا جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول : لما " < 7-327 > " أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فقلنا: "امضوا" . فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: "افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك [يفعل] من نام أو نسي". قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه [الوحي] اشتد عليه، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنـزل عليه: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) .

وقد رواه أحمد وأبو داود، والنسائي من غير وجه، عن جامع بن شداد به .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به .

وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر، عن ابن قسيط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه .

فقالت له عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا؟".

أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب، به .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عون الخراز -وكان ثقة بمكة-حدثنا محمد بن بشر حدثنا مسعر، عن قتادة، عن أنس، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه -أو قال ساقاه-فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟" غريب من هذا الوجه .

" < 7-328 > "

فقوله: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) أي: بينا ظاهرا، والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان.

وقوله: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) : هذا من خصائصه -صلوات الله وسلامه عليه-التي لا يشاركه فيها غيره. وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو -صلوات الله وسلامه عليه-في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله لله، وأكثرهم تعظيما لأوامره ونواهيه. قال حين بركت به الناقة: "حبسها حابس الفيل" ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها" فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح، قال الله له: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) أي: في الدنيا والآخرة، ( وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم.

( وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) أي: بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: "وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" . وعن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] أنه قال: ما عاقبت -أي في الدنيا والآخرة-أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

يقول تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) أي: جعل الطمأنينة. قاله ابن عباس، وعنه: الرحمة.

وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين. وهم الصحابة يوم الحديبية، الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم لذلك، واستقرت، زادهم إيمانًا مع إيمانهم.

" < 7-329 > "

وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب.

ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، فقال: ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: ولو أرسل عليهم ملكا واحدا لأباد خضراءهم، ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة، والبراهين الدامغة؛ ولهذا قال: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )

ثم قال تعالى: ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ) ، قد تقدم حديث أنس: قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، هذا لك فما لنا؟ فأنـزل الله: ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ) أي: ماكثين فيها أبدا. ( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) أي: خطاياهم وذنوبهم، فلا يعاقبهم عليها، بل يعفو ويصفح ويغفر، ويستر ويرحم ويشكر، ( وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ) ، كقوله : فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران : 185].

وقوله: ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية؛ ولهذا قال: ( عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ) أي: أبعدهم من رحمته ( وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) .

ثم قال مؤكدا لقدرته على الانتقام من الأعداء -أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين-: ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (Cool لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (9)

يقول تعالى لنبيه محمد -صلوات الله وسلامه عليه ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ) أي: على الخلق، ( وَمُبَشِّرًا ) أي: للمؤمنين، ( وَنَذِيرًا ) أي: للكافرين. وقد تقدم تفسيرها في سورة "الأحزاب" .

( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ ) ، قال ابن عباس وغير واحد: يعظموه، ( وَتُوَقِّرُوهُ ) من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام، ( وَتُسَبِّحُوهُ ) أي: يسبحون الله، ( بُكْرَةً وَأَصِيلا ) أي: أول النهار وآخره.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح   تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Icon_minitime1الثلاثاء يونيو 26, 2012 12:50 pm

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفا له وتعظيما وتكريما: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ) كقوله : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء : 80]، ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) أي: هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة : 111].

وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الفضل بن يحيى الأنباري، حدثنا علي بن بكار، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سل سيفه في سبيل الله، فقد بايع الله" .

وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: "والله ليبعثه الله يوم القيامة له عينان ينظر بهما، ولسان ينطق، به ويشهد على من استلمه بالحق، فمن استلمه فقد بايع الله"، ثم قرأ: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) .

ولهذا قال هاهنا: ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) أي: إنما يعود وبال ذلك على الناكث، والله غني عنه، ( وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) أي: ثوابًا جزيلا. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت تحت شجرة سَمُر بالحديبية، وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قيل: ألف وثلثمائة. وقيل: وأربعمائة. وقيل: وخمسمائة. والأوسط أصح.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك:

قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة.

ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، به . وأخرجاه أيضا من حديث الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: كنا يومئذ ألفا وأربعمائة، ووضع يده في ذلك الماء، فنبع الماء من بين أصابعه، حتى رووا كلهم .

وهذا مختصر من سياق آخر حين ذكر قصة عطشهم يوم الحديبية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاهم سهما من كنانته، فوضعوه في بئر الحديبية، فجاشت بالماء، حتى كفتهم، فقيل لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: كنا ألفا وأربعمائة، ولو كنا مائة ألف لكفانا . وفي رواية [في] الصحيحين عن جابر: أنهم كانوا خمس عشرة مائة .


وروى البخاري من حديث قتادة، قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة.

قلت: فإن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: كانوا أربع عشرة مائة. قال رحمه الله: وهم، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة .

قال البيهقي: هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول: خمس عشرة مائة، ثم ذكر الوهم فقال: أربع عشرة مائة .

وروى العوفي عن ابن عباس: أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. والمشهور الذي رواه غير واحد عنه: أربع عشرة مائة، وهذا هو الذي رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن العباس الدوري، عن يحيى بن معين، عن شبابة بن سوار، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة . وكذلك هو في رواية سلمة بن الأكوع، ومعقل بن يسار، والبراء بن عازب. وبه يقول غير واحد من أصحاب المغازي والسير. وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: كان أصحاب الشجرة ألفا وأربعمائة، وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين .

وروى محمد بن إسحاق في السيرة، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أنهما حدثاه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني عنه يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة .

كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه، فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا بضع عشرة مائة.

ذكر سبب هذه البيعة العظيمة:

قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.


فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول صلى الله عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل.

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: "لا نبرح حتى نناجز القوم". ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعهم على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر.

فبايع الناس، ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، فكان جابر يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل.

وذكر ابن لهيعة عن الأسود . عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق، وزاد في سياقه: أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان [بن عفان] سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين بعض المسلمين وبعض المشركين، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن روح القدس قد نـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا، فسار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا أبدا، فأرعب ذلك المشركين ، وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين، ودعوا إلى الموادعة والصلح.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا تمتام ، حدثنا الحسن بن بشر ، حدثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان [رضي الله عنه] رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، فبايع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله". فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم .


قال ابن هشام : حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عمر قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى.

وقال عبد الملك بن هشام النحوي: فذكر وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي .

وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي خالد، عن الشعبي، قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، كان أول من انتهى إليه أبو سنان [الأسدي رضي الله عنه] ، فقال: ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام تبايعني؟". فقال أبو سنان: على ما في نفسك. هذا أبو سنان [بن] وهب الأسدي [رضي الله عنه] .

وقال البخاري: حدثنا شجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد: حدثنا صخر [بن الربيع] ، عن نافع، قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر، وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة، فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.

ثم قال البخاري :وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن الناس كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قد تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال -يعني عمر-: يا عبد الله، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع.

وقد أسنده البيهقي عن أبي عمرو الأديب، عن أبي بكر الإسماعيلي، عن الحسن بن سفيان، عن دحيم: حدثني الوليد بن مسلم فذكره .

وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم عن قتيبة عنه .

وروى مسلم عن يحيى بن يحيى، عن يزيد بن زريع، عن خالد، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج، عن معقل بن يسار، قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس ، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: ولم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر .

وقال البخاري: حدثنا المكي بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال يزيد: قلت: يا أبا مسلم ، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت .

وقال البخاري أيضا: حدثنا أبو عاصم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت، فقال: "يا سلمة ألا تبايع؟" قلت: بايعت، قال: "أقبل فبايع". فدنوت فبايعته. قلت: علام بايعته يا سلمة؟ قال: على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد . وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم، أنهم بايعوه على الموت .

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهم، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهم، حدثنا أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن إياس بن سلمة، عن أبيه سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها -يعني الركي-فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت، فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة. فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى الله عليه وسلم: "بايعني يا سلمة". قال: قلت: يا رسول الله، قد بايعتك في أول الناس. قال:"وأيضا". قال: ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا فأعطاني حجفة -أو درقة-ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال صلى الله عليه وسلم: "ألا تبايع يا سلمة؟" قال: قلت: يا رسول الله، قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم. قال: "وأيضا". فبايعته الثالثة، فقال: "يا سلمة، أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟". قال: قلت: يا رسول الله، لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي" قال: ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا. قال: وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، أسقي فرسه وأحسه وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله. فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها، ثم اضطجعت في أصلها في ظلها، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم. فاخترطت سيفي، فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي، ثم قلت : والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء عمي عامر برجل من العَبَلات يقال له: "مكرز" من المشركين يقوده، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه"، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنـزل الله [عز وجل] : وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الآية [الفتح : 24] .

وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه، أو قريبا منه .

وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة، عن طارق، عن سعيد بن المسيب، قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال: فانطلقنا من قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، فإن كان تبينت لكم، فأنتم أعلم .

وقال أبو بكر الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزبير، حدثنا جابر، قال: "لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، وجدنا رجلا منا يقال له "الجد بن قيس" مختبئا تحت إبط بعيره".

رواه مسلم من حديث ابن جريج، عن ابن الزبير، به .

وقال الحميدي أيضا: حدثنا سفيان ، عن عمرو، سمع جابرا، قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم خير أهل الأرض اليوم". قال جابر: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة. قال سفيان: إنهم اختلفوا في موضعها. أخرجاه من حديث سفيان .

وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا الليث. عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي، حدثنا سعد بن عمرو الأشعثي، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، عن خداش بن عياش، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر". قال: فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره، فقلنا: تعال فبايع. فقال: أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع .


وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي حدثنا قرة، عن أبي الزبير ، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يصعد الثنية، ثنية المرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل". فكان أول من صعد خيل بني الخزرج، ثم تبادر الناس بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر". فقلنا: تعال يستغفر لك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. فإذا هو رجل ينشد ضالة . رواه مسلم عن عبيد الله، به .

وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار -إن شاء الله-من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد". قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها، فقالت لحفصة : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا [مريم : 71]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله : ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم : 72]"رواه مسلم .

وفيه أيضا عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر؛ أن عبدًا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا، فقال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت، لا يدخلها؛ فإنه قد شهد بدرا والحديبية" .

ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) [الفتح : 10] ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح : 18] .

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)


يقول تعالى مخبرا رسوله -صلوات الله وسلامه عليه -بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم ، وتركوا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذروا بشغلهم بذلك، وسألوا أن يستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد، بل على وجه التقية والمصانعة؛ ولهذا قال تعالى: ( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ) أي: لا يقدر أحد أن يرد ما أراده فيكم تعالى وتقدس، وهو العليم بسرائركم وضمائركم، وإن صانعتمونا وتابعتمونا ؛ ولهذا قال: ( بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) .

ثم قال: ( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ) أي: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، بل تخلف نفاق، ( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا ) أي: اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم وتستباد خضراؤهم، ولا يرجع منهم مخبر، ( وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ) أي: هلكى. قاله ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد. وقال قتادة: فاسدين. وقيل: هي بلغة عمان.

ثم قال: ( وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) أي: من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف ما هو عليه في نفس الأمر.

ثم بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والأرض: ( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) أي: لمن تاب إليه وأناب، وخضع لديه.

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا (15)

يقول تعالى مخبرًا عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر يفتتحونها: أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يأذن لهم في ذلك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم. فإن الله تعالى وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ذلك شرعا وقدرا؛ ولهذا قال: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ )

قال مجاهد، وقتادة، وجويبر: وهو الوعد الذي وعد به أهل الحديبية. واختاره ابن جرير .


وقال ابن زيد: هو قوله : فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة : 83] .

وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر؛ لأن هذه الآية التي في "براءة" نـزلت في غزوة تبوك، وهي متأخرة عن غزوة الحديبية.

وقال ابن جريج: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) يعني: بتثبيطهم المسلمين عن الجهاد.

( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ) أي: وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم، ( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) أي: أن نشرككم في المغانم، ( بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا ) أي: ليس الأمر كما زعموا، ولكن لا فهم لهم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح   تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Icon_minitime1الثلاثاء يونيو 26, 2012 12:51 pm

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم، الذين هم أولو بأس شديد، على أقوال:

أحدها: أنهم هوازن. رواه شعبة عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير -أو عكرمة ، أو جميعا-ورواه هُشيم عن أبي بشر، عنهما. وبه يقول قتادة في رواية عنه.

الثاني: ثقيف، قاله الضحاك.

الثالث: بنو حنيفة، قاله جويبر. ورواه محمد بن إسحاق، عن الزهري. وروي مثله عن سعيد وعكرمة.

الرابع: هم أهل فارس. رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه يقول عطاء، ومجاهد، وعكرمة -في إحدى الروايات عنه.

وقال كعب الأحبار: هم الروم. وعن ابن أبي ليلى، وعطاء، والحسن، وقتادة: هم فارس والروم. وعن مجاهد: هم أهل الأوثان. وعنه أيضا: هم رجال أولو بأس شديد، ولم يعين فرقة. وبه يقول ابن جريج، وهو اختيار ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الأشج، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن القواريري، عن مَعْمَر ، عن الزهري، في قوله: ( سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال: لم يأت أولئك بعد.

وحدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن ابن أبي خالد، عن أبيه، عن أبي هريرة في قوله: ( سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) قال: هم البارزون.

قال: وحدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين، ذلف الآنف، كأن وجوههم المجانّ المطرقة". قال سفيان: هم الترك .

قال ابن أبي عمر: وجدت في مكان آخر: ابن أبي خالد عن أبيه قال: نـزل علينا أبو هريرة ففسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقاتلون قومًا نعالهم الشَّعْر" قال: هم البارزون، يعني الأكراد .

وقوله: ( تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) يعني: يشرع لكم جهادهم وقتالهم، فلا يزال ذلك مستمرا عليهم، ولكم النصرة عليهم، أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار.

ثم قال: ( فَإِنْ تُطِيعُوا ) أي: تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه، ( يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) يعني: زمن الحديبية، حيث دعيتم فتخلفتم، ( يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) .

ثم ذكر الأعذار في ترك الجهاد، فمنها لازم كالعمى والعرج المستمر، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ.

ثم قال تعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله ورسوله: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ ) أي: ينكل عن الجهاد، ويقبل على المعاش ( يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ) في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وقد تقدم ذكر عدتهم، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية.


قال البخاري: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجًا فمررت بقوم يصلون، فقلت ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم .

وقوله: ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) أي: من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة، ( فَأَنـزلَ السَّكِينَةَ ) : وهي الطمأنينة، ( عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا موسى، أخبرنا موسى -يعني ابن عبيدة-حدثني إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: بينما نحن قائلون. إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البيعة البيعة، نـزل روح القدس. قال: فَثُرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) [قال] : فبايع لعثمان بإحد يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لابن عفان، طوف بالبيت ونحن هاهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو مكث كذا كذا سنة ما طاف حتى أطوف" .

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (23)

قال مجاهد في قوله: ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) : هي جميع المغانم إلى اليوم، ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) يعني: فتح خيبر.

وروى العوفي عن ابن عباس: ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) يعني: صلح الحديبية.

( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) أي: لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال. وكذلك كف أيدي الناس [عنكم] الذين خلفتموهم وراء أظهركم عن عيالكم وحريمكم، ( وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: يعتبرون بذلك، فإن الله حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء، مع قلة عددهم، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم أنه العليم بعواقب الأمور، وأن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر، كما قال: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة : 216] .

( وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي: بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته، وموافقتكم رسوله .

وقوله: ( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) أي: وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها، قد يَسَّرها الله عليكم، وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون.

وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة، ما المراد بها؟ فقال العَوْفي عن ابن عباس: هي خيبر. وهذا على قوله في قوله تعالى: ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) إنها صلح الحديبية. وقاله الضحاك، وابن إسحاق، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال قتادة: هي مكة. واختاره ابن جرير.

وقال ابن أبي ليلى، والحسن البصري: هي فارس والروم.

وقال مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن سماك الحنفي، عن ابن عباس: ( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ) قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم .

وقوله: ( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) يقول تعالى مبشرا لعباده المؤمنين: بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزم جيش الكفار فارا مدبرا لا يجدون وليا ولا نصيرا؛ لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين.

ثم قال: ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) أي: هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلى نصر الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق ووضع الباطل، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين، مع قلة عدد المسلمين وعُدَدهم، وكثرة المشركين وعددهم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح   تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Icon_minitime1الثلاثاء يونيو 26, 2012 12:53 pm

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)


وقوله: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) : هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكفّ أيدي المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلا من الفريقين، وأوجد بينهم صلحا فيه خيَرَةٌ للمؤمنين، وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة. وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع حين جاءوا بأولئك السبعين الأسارى فأوثقوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهم وقال: "أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثنَاه". قال: وفي ذلك أنـزل الله: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ) الآية.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح، من قبل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا -قال عفان: فعفا عنهم-ونـزلت هذه الآية: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ )

ورواه مسلم وأبو داود في سننه، والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما، من طرق، عن حماد بن سلمة، به .

وقال أحمد -أيضا-: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا الحسين بن واقد، حدثنا ثابت البُنَاني، عن عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنِي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب. وسهيلُ بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم"، فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم. اكتب في قضيتنا ما نعرف. قال: "اكتب باسمك اللهم"، وكتب: "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة". فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله". فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله بأسماعهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل جئتم في عهد أحد؟ أو: هل جعل لكم أحد أمانا؟" فقالوا: لا. فخلى سبيلهم، فأنـزل الله: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) . رواه النسائي من حديث حسين بن واقد، به .

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا يعقوب القُمّي، حدثنا جعفر، عن ابن أبْزَى قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة، قال له عمر: يا نبي الله، تدخل على قوم لك حَرْب بغير سلاح ولا كُرَاع؟ قال: فبعث إلى المدينة، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى، فنـزل بمنى، فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال لخالد بن الوليد: "يا خالد، هذا ابن عمك أتاك في الخيل" ، فقال خالد: أنا سيف الله، وسيف رسوله -فيومئذ سمي سيف الله-يا رسول الله، ارم بي أين شئت. فبعثه على خيل، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنـزل الله: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ] ) إلى: عَذَابًا أَلِيمًا . قال: فكف الله النبي عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل .

ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه. وهذا السياق فيه نظر؛ فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية؛ لأن خالدا لم يكن أسلم؛ بل قد كان طليعة المشركين يومئذ، كما ثبت في الصحيح. ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء، لأنهم قاضوه على أن يأتي من العام المقبل فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثة أيام، فلما قدم لم يمانعوه، ولا حاربوه ولا قاتلوه. فإن قيل: فيكون يوم الفتح؟ فالجواب: ولا يجوز أن يكون يوم الفتح؛ لأنه لم يسق عام الفتح هَديًا، وإنما جاء محاربا مقاتلا في جيش عَرَمْرَم، فهذا السياق فيه خلل، قد وقع فيه شيء فليتأمل، والله أعلم.

وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس: أن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدًا، فأُخذُوا أخذًا ، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: وفي ذلك أنـزل الله: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ) الآية .

وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا يقال له: "ابن زُنَيْم" اطلع على الثنية من الحديبية، فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوه باثني عشر فارسًا من الكفار، فقال لهم: "هل لكم علي عهد؟ هل لكم علي ذمة؟". قالوا: لا. فأرسلهم، وأنـزل الله في ذلك: ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ) الآية.


هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار من مشركي العرب من قريش ومن مالأهم على نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي: هم الكفار دون غيرهم، ( وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي: وأنتم أحق به، وأنتم أهله في نفس الأمر، ( وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) أي: وصدوا الهدي أن يصل إلى محله، وهذا من بغيهم وعنادهم، وكان الهديُ سبعين بدنة، كما سيأتي بيانه.

وقوله: ( وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ) أي: بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم، لكنا سَلَّطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل؛ ولهذا قال: ( لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ ) أي: إثم وغرامة ( بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ) أي: يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام.

ثم قال: ( لَوْ تَزَيَّلُوا ) أي: لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم ( لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) أي: لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلا ذريعا.

قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو الزِّنْباع -روح بن الفرج-حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد المكي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله أبو سعيد -مولى بني هاشم-حدثنا حُجْر بن خلف: سمعت عبد الله بن عوف يقول : سمعت جنيد بن سبع يقول : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافرا، وقاتلت معه آخر النهار مسلما، وفينا نـزلت: ( وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ) قال: كنا تسعة نفر: سبعة رجال وامرأتين .

ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به، وقال فيه: عن أبي جمعة جنيد بن سبيع، فذكره والصواب أبو جعفر: حبيب بن سباع. ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف ، به. وقال: كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة، وفينا نـزلت: ( وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ) .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة، عن أبي حمزة ، عن عطاء عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس: ( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) يقول: لو تزيل الكفار من المؤمنين، لعذبهم الله عذابا أليما بقتلهم إياهم.

وقوله: ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) ، وذلك حين أبوا أن يكتبوا "بسم الله الرحمن الرحيم"، وأبوا أن يكتبوا: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، ( فَأَنـزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) ، وهي قول: "لا إله إلا الله"، كما قال ابن جرير، وعبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا شعبة، عن ثوير ، عن أبيه عن الطفيل -يعني: ابن أبي بن كعب [رضي الله عنه] -عن أبيه [أنه] سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال: "لا إله إلا الله".

وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وسألت أبا زُرْعَة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"، وأنـزل الله في كتابه، وذكر قوما فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات : 35] ، وقال الله جل ثناؤه: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ) وهي: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، فاستكبروا عنها واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية، وكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة..

وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري ، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري، والله أعلم.

وقال مجاهد: ( كَلِمَةَ التَّقْوَى ) : الإخلاص. وقال عطاء بن أبي رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك، له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.


وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن المسور: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.

وقال الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن عَبَاية بن رِبْعِي، عن علي: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال: لا إله إلا الله، والله أكبر. وكذا قال ابن عمر، رضي الله عنهما.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال: يقول: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي رأس كل تقوى.

وقال سعيد بن جبير: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال: لا إله إلا الله والجهاد في سبيله.

وقال عطاء الخراساني: هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر عن الزهري: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال: بسم الله الرحمن الرحيم.

وقال قتادة: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) قال: لا إله إلا الله.

( وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ) : كان المسلمون أحق بها، وكانوا أهلها.

( وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) أي: هو عليم بمن يستحق الخير من يستحق الشر.

وقد قال النسائي: حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا شبابة بن سوار، عن أبي رزين، عن عبد الله بن العلاء بن زبر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) ، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام. فبلغ ذلك عمر فأغلظ له، فقال: إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله. فقال عمر: بل أنت رجل عندك علم وقرآن، فاقرأ وعلم مما علمك الله ورسوله .

وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح:

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يَسَار، عن الزهري، عن عُرْوَة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي ، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العُوذ المطافيل، قد لبست جلود النمور، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله [عليهم] دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة". ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة. قال: فسلك بالجيش تلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا سلك ثنية المرار، بركت ناقته، فقال الناس: خلأت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت، وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إياها" [ثم] قال للناس: "انـزلوا". قالوا: يا رسول الله، ما بالوادي من ماء ينـزل عليه الناس. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنـزل في قليب من تلك القلب، فغرزه فيه فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدًا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحقه، فاتهموهم.

قال محمد بن إسحاق: قال الزهري: [و] كانت خزاعة في عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركها ومسلمها، لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بمكة، فقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبدًا علينا عَنْوة، ولا يتحدث بذلك العرب. ثم بعثوا إليه مِكْرَز بن حفص، أحد بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رجل غادر". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما كَلَّم به أصحابه، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني، وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهَدْي" في وجهه، فبعثوا الهدي، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عُرْض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى ، فقال: يا معشر قريش، قد رأيت ما لا يحل صَده، الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله. قالوا: اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي، فقال: يا معشر قريش، إن قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم، من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأنا ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه، فقال: يا محمد جمعت أوباش الناس، ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال: وأبو بكر قاعد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: امصص بظر اللات! أنحن ننكشف عنه؟! قال: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أبي قحافة". قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد ، قال: فقرع يده. ثم قال: أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل -والله-لا تصل إليك. قال: ويحك! ما أفظعك وأغلظك! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: من هذا يا محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة". قال: أغدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟! قال فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. قال: فقام من عند رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنى جئت كسرى في ملكه، وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت مَلكا قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فروا رأيكم. قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له: "الثعلب" فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش، فمنعتهم الأحابيش، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني: عثمان بن عفان. قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد، وإنما جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته. فخرج عثمان حتى أتى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنـزل عن دابته وحمله بين يديه وردف خلفه، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: واحتبسته قريش عندها، قال: وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل.

قال محمد: فحدثني الزهري: أن قريشًا بعثوا سهل بن عمرو، وقالوا: ائت محمدًا فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدًا. فأتاه سهل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما وأطالا الكلام، وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب فأت أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أو ليس برسول الله؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله. [ثم] قال عمر: وأنا أشهد. ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بالمشركين؟ قال: "بلى" قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال: "أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني". ثم قال عمر: ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا. قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] فقال: اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهل بن عمرو: ولا أعرف هذا، ولكن اكتب: "باسمك اللهم، فقال رسول الله: "اكتب باسمك اللهم" . هذا ما صلح عليه محمد رسول الله، سهل بن عمرو"، فقال سهل بن عمرو: ولو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، وسهل بن عمرو، على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله من أصحابه بغير إذن وليه، رده عليهم، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب: أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد رسول الله وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك، وأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب، إذا جاءه أبو جندل بن سهل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على نفسه، دخل الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا أن يهلكوا. فلما رأى سهل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وقال: يا محمد، قد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: "صدقت". فقام إليه فأخذ بتلابيبه. قال: وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني؟ قال: فزاد الناس شرا إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا ، وإنا لن نغدر بهم". قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب فجعل يمشي مع [أبي] جندل إلى جنبه وهو يقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه، قال: يقول: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال: فضن الرجل بأبيه. قال: ونفذت القضية، فلما فرغا من الكتاب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم، وهو مضطرب في الحل، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، انحروا واحلقوا". قال: فما قام أحد. قال: ثم عاد بمثلها، فما قام رجل حتى عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها، فما قام رجل.

فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة فقال: "يا أم سلمة ما شأن الناس؟" قالت: يا رسول الله، قد دخلهم ما رأيت، فلا تُكَلِّمن منهم إنسانًا، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدًا حتى أتى هديه فنحره، ثم جلس فحلق، قال: فقام الناس ينحرون ويحلقون. قال: حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نـزلت سورة الفتح.

هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه، وهكذا رواه يونس بن بُكَيْر وزياد البكائي، عن ابن إسحاق، بنحوه ، وفيه إغراب، وقد رواه أيضا عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، به نحوه وخالفه في أشياء وقد رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه، فساقه سياقة حسنة مطولة بزيادات جيدة، فقال في كتاب الشروط من صحيحه:

حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر: أخبرني الزهري: أخبرني عُرْوة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة وبعث عينًا له من خزاعة، وسار حتى إذا كان بغير الأشطاط أتاه عينه، فقال: إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك. فقال: "أشيروا أيها الناس عليّ، أترون أن نميل عل عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن صدونا عن البيت؟" وفي لفظ: "أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم. فإن يأتونا كان الله قد قطع عُنُقا من المشركين وإلا تركناهم محزونين"، وفي لفظ: "فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محرُوبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟". فقال أبو بكر [رضي الله عنه] : يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت، لا نريد قتل أحد ولا حربًا، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. وفي لفظ: فقال أبو بكر، رضي الله عنه: الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فروحوا إذن"، وفي لفظ: "فامضوا على اسم الله".

حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين". فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقَتَرة الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته. فقال الناس: حل حل فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها". ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نـزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، يتبرضه الناس تبرضًا، فلم يلبث الناس حتى نـزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع من كنانته سهمًا ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، نـزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددنهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره" قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئنا من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال: ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول: قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني أستنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء. فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تك الأخرى فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: امصص بَظْر اللات! أنحن نفر وندعه؟! قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة، رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك من لحية النبي صلى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه وقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شي".

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه ، قال: فوالله ما تنخم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذ توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه، تعظيما له صلى الله عليه وسلم، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشْد فاقبلوها. فقال رجل منهم من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البُدْن، فابعثوها له" فبُعِثَتْ له، واستقبله الناس يُلَبُّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البُدْن قد قُلِّدت وأشعرت، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت. فقال رجل منهم يقال له: "مِكْرَز بن حفص"، فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز [بن حفص] وهو رجل فاجر"، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهل بن عمرو .

وقال معمر: أخبرني أيوب، عن عِكْرِمَةَ أنه قال: لما جاء سهل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سَهُل لكم من أمركم".

قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهل بن عمرو فقال: هات أكتب بيننا وبينك كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "[اكتب] : بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهل [بن عمرو] : أما "الرحمن" فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: "باسمك اللهم"، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب: باسمك اللهم". ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فقال سهل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: "محمد بن عبد الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب محمد بن عبد الله" قال الزهري: وذلك لقوله: "والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به". فقال سهل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغْطَةً، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهل: "وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا". فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهل بن عمرو يرسُفُ في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن تَرُدّه إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نَقْضِ الكتاب بعد". قال: فوالله إذًا لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" فقال: ما أنا بمجيز ذلك لك، قال: "بلى فافعل". قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرَدّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عُذِّبَ عذابا شديدا في الله عز وجل. قال عمر [بن الخطاب] رضي الله عنه: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى". قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى". قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله، ولستُ أعصيه، وهو ناصري"، قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟" قلت: لا قال: "فإنك آتيه ومُطوِّف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغَرْزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك تأتيه وتطوف به.

قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا". قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات!! فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، قالت له أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنـزل الله، عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ حتى بلغ: بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة : 10] . فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير -رجل من قريش-وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنـزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا، فاستله الآخر، فقال: أجل! والله إنه لجيد، لقد جربت منه ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى بَرَد، وفَرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذُعرًا"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله، قد -والله-أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمّه مِسْعَرُ حرب! لو كان له أحد". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم: "فمن أتاه منهم فهو آمن". فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وأنـزل الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ حتى بلغ: ( حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.

هكذا ساقه البخاري هاهنا ، وقد أخرجه في التفسير، وفي عمرة الحديبية، وفي الحج، وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة، كلاهما عن الزهري، به ووقع في بعض الأماكن عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمِسْوَر بن [مَخْرَمة] ، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . وهذا أشبه والله أعلم، ولم يسقه أبسط من هاهنا، وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع، وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هاهنا، ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وقال البخاري في التفسير: حدثنا أحمد بن إسحاق السُّلَمِي، حدثنا يعلى، حدثنا عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: أتيت أبا وائل أسأله فقال: كنا بصفين فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله؟ فقال علي بن أبي طالب: نعم. فقال سهل بن حُنَيْف: اتهمُوا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية -يعني: الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين-ولو نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال: "بلى" قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: "يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا"، فرجع متغيظا، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وهم على الباطل، فقال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدا، فنـزلت سورة الفتح .

وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان ابن سلمة، عن سهل بن حنيف به ، وفي بعض ألفاظه: "يا أيها الناس، اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددته" وفي رواية: فنـزلت سورة الفتح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب فقرأها عليه.

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم سهل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهل: لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: "باسمك اللهم". فقال: "اكتب من محمد رسول الله". قال: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب: اسمك واسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب: من محمد بن عبد الله". واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقال: يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال: "نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله". رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، به .

وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا عكرمة بن عمار قال: حدثني سماك، عن عبد الله بن عباس قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا، فقلت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: "اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله: "امح يا علي، اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله". والله لرسول الله خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي، بنحوه .

وروى الإمام أحمد، عن يحيى بن آدم: حدثنا زهير، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل، فلما صُدَّت عن البيت حَنَّتْ كما تَحِنُّ إلى أولادها .

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) .


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُرِىَ في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفوس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في ذلك، فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا" قال: لا قال: "فإنك آتيه ومطوف به". وبهذا أجاب الصديق، رضي الله عنه، أيضا حَذْو القُذَّة بالقُذَّة؛ ولهذا قال تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ) : [و] هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء، [وقوله] : ( آمِنِينَ ) أي: في حال دخولكم. وقوله: ( مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ) ، حال مقدرة؛ لأنهم في حال حرمهم لم يكونوا محلقين ومقصرين، وإنما كان هذا في ثاني الحال، كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "رحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "رحم الله المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين" في الثالثة أو الرابعة .

وقوله: ( لا تَخَافُونَ ) : حال مؤكدة في المعنى، فأثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد. وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحا، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة، جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه، ولم يغب منهم أحد، قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سِمَاك بن خَرَشَة، كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة، فلما كان في ذي القعدة [في] سنة سبع خرج إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار أصحابه يلبون. فلما كان قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينه بينهم من وضع القتال عشر سنين، وذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنـزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيف مغمدة في قربها، كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مِكْرَز بن حفص فقال: يا محمد، ما عرفناك تنقض العهد. قال: "وما ذاك؟" قال : دخلت: علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال: "لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج"، فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء. وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و [لا] إلى أصحابه غيظا وحنقا، وأما بقية أهل مكة من الر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح   تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Icon_minitime1الثلاثاء يونيو 26, 2012 12:55 pm

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب، فقال: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) ، وهذا مبتدأ وخبر، وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال: ( وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ، كما قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة : 54] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار، رحيما برًا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة : 123]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى " < 7-361 > " منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر" ، وقال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه كلا الحديثين في الصحيح.

وقوله: ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ) : وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله، عز وجل، والاحتساب عند الله جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله، وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه، تعالى، عنهم وهو أكبر من الأول، كما قال: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة : 72] .

وقوله: ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ) يعني: السمت الحسن.

وقال مجاهد وغير واحد: يعني: الخشوع والتواضع.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافسي، حدثنا حسين الجَعْفي، عن زائدة ، عن منصور عن مجاهد: ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) قال: الخشوع قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون.

وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم.

وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.

وقد أسنده ابن ماجه في سننه، عن إسماعيل بن محمد الطَّلْحي، عن ثابت بن موسى، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كَثُرَتْ صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" والصحيح أنه موقوف .

وقال بعضهم: إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس.

وقال أمير المؤمنين عثمان: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه، وفَلتَات لسانه.

والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.

وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمود بن محمد المروزي، حدثنا حامد بن آدم المروزي، " < 7-362 > " حدثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر"، العرزمي متروك .

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما كان" .

وقال الإمام أحمد [أيضا] : حدثنا حسن، حدثنا زُهَيْر، حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان: أن أباه حدثه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي، عن زهير، به .

فالصحابة [رضي الله عنهم] خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم.

وقال مالك، رحمه الله: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: "والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا". وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنـزلة والأخبار المتداولة ؛ ولهذا قال هاهنا: ( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ) ، ثُمَّ قَالَ: ( وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ) : ( أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] ) أي: فراخه، ( فَآزَرَهُ ) أي: شده ( فَاسْتَغْلَظَ ) أي: شب وطال، ( فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) أي: فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع، ( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) .

ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك -رحمه الله، في رواية عنه-بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة ، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.

" < 7-363 > "

ثم قال: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ) "من" هذه لبيان الجنس، ( مَغْفِرَةً ) أي: لذنوبهم. ( وَأَجْرًا عَظِيمًا ) أي: ثوابا جزيلا ورزقا كريما، ووعد الله حق وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم ، وقد فعل.

قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" .

آخر تفسير سورة الفتح، ولله الحمد والمنة.
" < 7-364 > "
تفسير سورة الحجرات


وهي مدنية .

بسم الله الرحمن الرحيم


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

هذه آداب ، أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [وَاتَّقُوا اللَّهَ ] ) ، أي: لا تسرعوا في الأشياء بين يديه، أي: قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ، [إذ] قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم؟" قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟" قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد؟" قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله، لما يرضي رسول الله".

وقد رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه . فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.

وقال العَوْفي عنه: نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه.

وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، حتى يقضي الله على لسانه.

وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم.

وقال سفيان الثوري: ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) بقول ولا فعل.

" < 7-365 > "

وقال الحسن البصري: ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قال: لا تدعوا قبل الإمام.

وقال قتادة: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنـزل في كذا كذا، وكذا لو صنع كذا، فكره الله ذلك، وتقدم فيه.

( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي: فيما أمركم به، ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) أي: لأقوالكم ( عَلِيمٌ ) بنياتكم.

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) : هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم [فوق صوته] . وقد روي أنها نـزلت في الشيخين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما.

وقال البخاري: حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر -قال نافع: لا أحفظ اسمه-فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه: يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم .

ثم قال البخاري: حدثنا حسن بن محمد، حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج، حدثني ابن أبي مليكة: أن عبد الله بن الزبير أخبره: أنه قَدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمرّ القعقاعَ بن مَعْبد. وقال عمر: بل أمرّ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلى -أو: إلا-خلافي. فقال عمر: ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنـزلت في ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ، حتى انقضت الآية، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ) الآية [الحجرات : 5] .

وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا .

وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حصين بن عُمَر، عن مُخَارق، عن طارق بن شهاب، عن أبى بكر الصديق قال: لما نـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) ، قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السّرار .

" < 7-366 > "

حصين بن عمر هذا -وإن كان ضعيفًا-لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة [رضي الله عنه] بنحو ذلك، والله أعلم .

وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا أزهر بن سعد، أخبرنا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده في بيته مُنَكِّسًا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يَرْفَعُ صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، فهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: "اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة" تفرد به البخاري من هذا الوجه .

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما نـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) إلى: ( وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينا، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجهر له بالقول حبط عملي، أنا من أهل النار. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال، فقال: "لا بل هو من أهل الجنة". قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه، فقال: بئسما تُعوّدون أقرانكم. فقاتلهم حتى قُتل .

وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك قال: لما نـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) إلى آخر الآية، جلس ثابت في بيته، قال: أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: "يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكى؟" فقال سعد: إنه لجاري، وما علمت له بشكوى. قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أُنـزلَت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل، هو من أهل الجنة".

" < 7-367 > "

ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدارمي، عن حَيَّان بن هلال، عن سليمان بن المغيرة، به، قال: ولم يذكر سعد بن معاذ. وعن قطن بن نُسَير عن جعفر بن سليمان ، عن ثابت، عن أنس بنحوه. وقال: ليس فيه ذكر سعد بن معاذ.

حدثنا هُرَيم بن عبد الأعلى الأسدي، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي يذكر، عن ثابت، عن أنس قال: لما نـزلت هذه الآية، واقتص الحديث، ولم يذكر سعد بن معاذ، وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رَجلٌ من أهل الجنة. .

فهذه الطرق الثلاث مُعَلّلة لرواية حماد بن سلمة، فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ. والصحيح: أن حال نـزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودًا؛ لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس، وهذه الآية نـزلت في وفد بني تميم، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة، والله أعلم.

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شـمَّاس، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، عن أبيه قال: لما نـزلت هذه الآية: ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) قال: قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، قال: فمر به عاصم بن عدي من بني العَجلان، فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية، أتخوف أن تكون نـزلت فيَّ وأنا صيت، رفيع الصوت. قال: فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وغلبه البكاء، فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال لها: إذا دخلتُ بيت فَرَسي فشدّي عَلَيّ الضبَّة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه، وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله، عز وجل، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وأتى عاصم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره، فقال: "اذهب فادعه لي". فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفَرَس، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال: اكسر الضبة. قال: فخرجا فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ثابت؟". فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نـزلت في: ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تَعِيش حَميدًا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟". فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وأنـزل الله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) .

وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك، فقد نهى الله عز وجل، عن رفع الأصوات " < 7-368 > " بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء، فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا .

وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره، كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حيا وفي قبره، صلوات الله وسلامه عليه ، دائما. ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم؛ ولهذا قال: ( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) ، كما قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور : 63] .

وقوله: ( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) أي: إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله لغضبه، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري، كما جاء في الصحيح: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بَالا يكتب له بها الجنة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلقي لها بالا يَهْوِي بها في النار أبعد ما بين السموات والأرض" .

ثم ندب الله عز وجل ، إلى خفض الصوت عنده، وحَثّ على ذلك، وأرشد إليه، ورغَّب فيه، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) أي: أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: كُتب إلى عمر يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها، أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر، رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها ( أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)

ثم إنه تعالى ذَمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات، وهي بيوت نسائه، كما يصنع أجلاف الأعراب، فقال: ( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح   تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Icon_minitime1الثلاثاء يونيو 26, 2012 12:57 pm

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) أي: " < 7-369 > " لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة.

ثم قال داعيا لهم إلى التوبة والإنابة: ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

وقد ذُكر أنها نـزلت في الأقرع بن حابس التميمي، فيما أورده غير واحد، قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وُهَيْب، حدثنا موسى بن عقبة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس؛ أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، فقال: يا محمد، يا محمد -وفي رواية: يا رسول الله-فلم يجبه. فقال: يا رسول الله، إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: " ذاك الله، عز وجل" .

وقال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حُرَيْث المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قال: جاء رجل رسول الله فقال: يا محمد، إن حمدي زين، وذمي شين. فقال: "ذاك الله، عز وجل" .

وهكذا ذكره الحسن البصري، وقتادة مرسلا.

وقال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عَمْرَة قال: كان بِشْر بن غالب ولَبِيد بن عُطَارِد -أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب-وهما عند الحجاج جالسان-فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نـزلت في قومك بني تميم: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات : 17] ، قالوا: أسلمنا، ولم يقاتلك بنو أسد .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عَمرو بن علي الباهلي، حدثنا المعتمر بن سليمان: سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم البجلي ، عن زيد بن أرقم قال: اجتمع أناس من العرب فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش بجناحه. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد. فأنـزل الله [عز وجل] : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها، فجعل يقول: "لقد صدق الله قولك يا زيد، لقد صدق الله قولك يا زيد".

" < 7-370 > "

ورواه ابن جرير، عن الحسن بن عرفة، عن المعتمر بن سليمان، به .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (Cool .

يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاطَ له، لئلا يحكم بقوله فيكون -في نفس الأمر-كاذبًا أو مخطئًا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال. وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.

وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نـزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضِرَار، والد جُويرية بنت الحارث أم المؤمنين، رضي الله عنها، قال الإمام أحمد:

حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله، أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، ويُرسل إليَّ رسول الله رسولا لإبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمَعتُ من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سُخْطة من الله ورسوله، فدعا بسَرَوات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وَقَّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَق -أي: خاف-فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفَصَل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث، فلما " < 7-371 > " غشيهم قال لهم: إلى من بُعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بَتَّةً ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟" . قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله. قال: فنـزلت الحجرات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) إلى قوله: ( حكيم ) .

ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار، عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق، به ، غير أنه سماه الحارث بن سرار، والصواب: الحارث بن ضرار، كما تقدم.

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جعفر بن عَوْن، عن موسى بن عبيدة، عن ثابت مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة ، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول الله فقال: إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. قالت: فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلا مصدقًا، فسررنا بذلك، وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر، قالت: ونـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) .

وروى ابن جرير أيضا من طريق العَوْفي، عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما حُدِّثَ الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهمّ بهم، فأنـزل الله عذرهم في الكتاب، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) إلى آخر الآية .

" < 7-372 > "

وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليُصدّقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك -زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام-فبعث رسول الله خالد بن الوليد إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنـزل الله هذه الآية. قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التَّبيُّن من الله، والعَجَلَة من الشيطان".

وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم: ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل بن حَيَّان، وغيرهم في هذه الآية: أنها نـزلت في الوليد بن عقبة، والله أعلم .

وقوله: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) أي: اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظِّموه ووقروه، وتأدبوا معه، وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتمّ من رأيكم لأنفسكم، كما قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب : 6] .

ثم بَيَّن [تعالى] أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: ( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ ) أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحَرَجكم، كما قال تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون : 71] .

وقوله: ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.

قال الإمام أحمد: حدثنا بَهْز، حدثنا علي بن مَسْعَدة، حدثنا قتادة، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب" قال: ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات، ثم يقول: "التقوى هاهنا، التقوى هاهنا" .

( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق، وهي: الذنوب " < 7-373 > " الكبار. والعصيان وهي جميع المعاصي. وهذا تدريج لكمال النعمة.

وقوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) أي: المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون، الذين قد آتاهم الله رشدهم.

قال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي، عن ابن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي، عز وجل" فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: "اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضل لمن هديت. ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت. ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم، إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيْلَة، والأمن يوم الخوف. اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم، توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم، قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق".

ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب، عن مَرْوَان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عُبَيْد بن رِفاعة، عن أبيه، به .

وفي الحديث المرفوع: "من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن" .

ثم قال: ( فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ) أي: هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي: عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره.

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) " < 7-374 > "

يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين المسلمين الباغين بعضهم على بعض: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم. وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" . فكان كما قال، صلوات الله وسلامه عليه، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة.

وقوله: ( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) أي: حتى ترجع إلى أمر الله وتسمع للحق وتطيعه، كما ثبت في الصحيح عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قلت: يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه" .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يحدث: أن أنسًا قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك" فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك. قال: فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنـزلت فيهم: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .

ورواه البخاري في "الصلح" عن مُسَدَّد، ومسلم في "المغازي" عن محمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، به نحوه .

وذكر سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال، فأنـزل الله هذه الآية، فأمر بالصلح بينهما.

وقال السدي: كان رجلا من الأنصار يقال له: "عمران"، كانت له امرأة تدعى أم زيد ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلَيَّة له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنـزلوها لينطلقوا بها، وإن الرجل قد كان خرج، فاستعان أهل الرجل، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنـزلت فيهم هذه " < 7-375 > " الآية. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم، وفاءوا إلى أمر الله.

وقوله: ( فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) أي: اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض، بالقسط، وهو العدل، ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عبد الأعلى، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن، بما أقسطوا في الدنيا".

ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، به . وهذا إسناده جيد قوي، رجاله على شرط الصحيح.

وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وَلُوا".

ورواه مسلم والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، به .

وقوله: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) أي: الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" . وفي الصحيح: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" . وفي الصحيح أيضا: "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين، ولك بمثله" . والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح: "مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر". وفي الصحيح أيضا: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه .

وقال أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، حدثنا عبد الله، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن من أهل الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس" . تفرد به ولا بأس بإسناده.

" < 7-376 > "

وقوله: ( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) يعني: الفئتين المقتتلتين، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي: في جميع أموركم ( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) ، وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس" ويروى: "وغمط الناس" والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ ولهذا قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ) ، فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء.

وقوله: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي: لا تلمزوا الناس . والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال [تعالى] : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة : 1] ، فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم : 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي: اللمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) ، كما قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء : 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضا .

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي: لا يطعن بعضكم على بعض.

وقوله: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها.

قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: حدثني أبو جَبِيرة بن الضحاك قال: فينا نـزلت في بني سلمة: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دُعِىَ أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا. فنـزلت: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ )

ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، عن وُهَيْب، عن داود، به .

وقوله: ( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ) أي: بئس الصفة والاسم الفسوق وهو: التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون، بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه، ( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ ) " < 7-377 > " أي: من هذا ( فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
sakr
المدير العام
المدير العام
sakr


ذكر عدد المساهمات : 1794
تاريخ التسجيل : 19/06/2011

تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح   تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح Icon_minitime1الثلاثاء يونيو 26, 2012 12:59 pm

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا .

وقال أبو عبد الله بن ماجه: حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحِمْصي، حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي قيس النَّضري، حدثنا عبد الله بن عمر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خير" . تفرد به ابن ماجه من هذا الوجه .

وقال مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".

رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن العتبي [ثلاثتهم] ، عن مالك، به .

وقال سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".

رواه مسلم والترمذي -وصححه-من حديث سفيان بن عيينة، به .

" < 7-378 > "

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله القِرْمِطي العدوي، حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني، حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري، حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال، عن أبيه، عن جده حارثة بن النعمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لازمات لأمتي: الطِّيَرَةُ، والحسد وسوء الظن". فقال رجل: ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: "إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فَأمض " . وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد قال: أتي ابن مسعود، رضي الله عنه، برجل ، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .

سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط .

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا لَيْث، عن إبراهيم بن نَشِيط الخَوْلاني، عن كعب بن علقمة، عن أبي الهيثم، عن دُخَيْن كاتب عقبة قال: قلت لعقبة: إن لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم. قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دُخَيْن فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم. قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دخين فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم. فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها".

ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد، به نحوه .

وقال سفيان الثوري، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم" أو: "كدت أن تفسدهم". فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفعه الله بها. رواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري، به .

وقال أبو داود أيضا: حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا ضَمْضَم بن زُرَعَة، عن شُرَيْح بن عبيد، عن جُبَيْر بن نُفَيْر، وكثير بن مُرَّة، وعمرو بن الأسود، والمقدام بن معد يكرب ، وأبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس، " < 7-379 > " أفسدهم" .

[وقوله] : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) أي: على بعضكم بعضا. والتجسس غالبا يطلق في الشر، ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالبا في الخير، كما قال تعالى إخبارا عن يعقوب [عليه السلام] أنه قال: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف : 87] ، وقد يستعمل كل منهما في الشر، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا" .

وقال الأوزاعي: التجسس: البحث عن الشيء. والتحسس: الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم. والتدابر: الصَّرْم. رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا القَعْنَبِي، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".

ورواه الترمذي عن قتيبة، عن الدَّرَاوَرْدي، به . وقال: حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن العلاء . وهكذا قال ابن عمر، ومسروق، وقتادة، وأبو إسحاق، ومعاوية بن قُرَّة.

وقال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني علي بن الأقمر، عن أبي حذيفة، عن عائشة قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا! -قال غير مسدد: تعني قصيرة-فقال: "لقد قلت كلمة لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجته". قالت: وحكيت له إنسانا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أني حكيت إنسانًا، وإن لي كذا وكذا".

ورواه الترمذي من حديث يحيى القَطَّان، وعبد الرحمن بن مَهْدِيّ، ووَكِيع، ثلاثتهم عن سفيان الثوري، عن علي بن الأقمر، عن أبي حذيفة سلمة بن صهيبة الأرحبي، عن عائشة، به. وقال: حسن صحيح .

وقال ابن جرير: حدثني ابن أبي الشوارب: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، حدثنا حسان بن المخارق ؛ أن امرأة دخلت على عائشة، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها " < 7-380 > " إلى النبي صلى الله عليه وسلم -أي: إنها قصيرة-فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتبتيها" .

والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة" ، وكقوله لفاطمة بنت قيس -وقد خطبها معاوية وأبو الجهم-: "أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه" . وكذا ما جرى مجرى ذلك. ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الأكيد ؛ ولهذا شبهها تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت، كما قال تعالى: ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) ؟ أي: كما تكرهون هذا طبعا، فاكرهوا ذاك شرعا؛ فإن عقوبته أشد من هذا وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، كما قال، عليه السلام، في العائد في هبته: "كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه"، وقد قال: "ليس لنا مثل السوء". وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه، عليه السلام، قال في خطبة [حجة] الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" .

وقال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا أسباط بن محمد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم".

ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد، عن أبيه، به . وقال: حسن غريب.

وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن سعيد بن عبد الله بن جريج، عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته".

تفرد به أبو داود . وقد روي من حديث البراء بن عازب، فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا إبراهيم بن دينار، حدثنا مصعب بن سلام، عن حمزة بن حبيب الزيات، عن أبي إسحاق " < 7-381 > " السَّبِيعي ، عن البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها -أو قال: في خدورها-فقال: "يا معشر من آمن بلسانه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته" .

طريق أخرى عن ابن عمر: قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: أخبرنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يحيى بن أكثم، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، عن الحسين بن واقد، عن أوفى بن دَلْهَم، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله". قال: ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظمُ حرمة عند الله منك .

قال أبو داود: وحدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح، حدثنا بَقِيَّة، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن وقاص بن ربيعة، عن المستورد؛ أنه حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم ، ومن كُسى ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم. ومن قام برجل مقام سمعةٍ ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة". تفرد به أبو داود .

وحدثنا ابن مصفى، حدثنا بقية وأبو المغيرة قالا حدثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم".

تفرد به أبو داود، وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي، به .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا أبو عبد الصمد بن عبد العزيز ابن عبد الصمد العمي، حدثنا أبو هارون العَبْديّ، عن أبي سعيد الخدري [رضي الله عنه] قال: قلنا يا رسول الله، حدثنا ما رأيت ليلة أسريَ بك؟... قال: "ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال ونساء مُوَكَّل بهم رجال يعمدون إلى عُرْض جنَب أحدهم فَيَحْذُون منه الحُذْوَة من مثل النعل ثم يضعونه في فيّ أحدهم، فيقال له: كل كما أكلت"، وهو يجد من أكله الموت -يا " < 7-382 > " محمد-لو يجد الموت وهو يكره عليه فقلت: يا جبرائيل ، من هؤلاء: قال: هؤلاء الهمَّازون اللمَّازون أصحاب النميمة. فيقال : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) وهو يكره على أكل لحمه.

هكذا أورد هذا الحديث، وقد سقناه بطوله في أول تفسير "سورة سبحان" ولله الحمد .

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا الربيع، عن يزيد، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموا يوما ولا يفطرن أحدٌ حتى آذن له. فصام الناس، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: ظللت منذ اليوم صائما، فائذن لي. فأفطر فيأذن له، ويجيء الرجل فيقول ذلك، فيأذن له، حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله، إن فتاتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين، فائذن لهما فَلْيفطرا فأعرض عنه، ثم أعاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صامتا، وكيف صام من ظل يأكل لحوم الناس؟ اذهب، فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا". ففعلتا، فقاءت كل واحدة منهما عَلَقةً علقَةً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار" .

إسناد ضعيف، ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون: حدثنا سليمان التيمي قال: سمعت رجلا يحدث في مجلس أبي عثمان النَّهْدِي عن عبيد -مولى رسول الله -أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رجلا أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن هاهنا امرأتين صامتا، وإنهما كادتا تموتان من العطش -أرَاهُ قال: بالهاجرة-فأعرض عنه -أو: سكت عنه-فقال: يا نبي الله، إنهما -والله قد ماتتا أو كادتا تموتان . فقال: ادعهما. فجاءتا، قال: فجيء بقدح -أو عُسّ-فقال لإحداهما: " قيئي" فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح. ثم قال للأخرى: قيئي فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا وغيره حتى ملأت القدح. فقال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس.

وهكذا قد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي، كلاهما عن سليمان بن طِرْخان التيمي، به مثله أو نحوه . ثم رواه أيضا من حديث مُسَدَّد، عن يحيى القَطَّان، عن عثمان بن غياث، حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان، عن سعد -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم-أنهم أمروا بصيام، فجاء رجل في نصف النهار فقال: يا رسول الله، فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد. فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا، ثم قال: "ادعهما". فجاء بعُس -أو: قَدَح-فقال لإحداهما: "قيئي"، فقاءت لَحْمًا ودمًا عبيطا وقيحا، وقال للأخرى مثل ذلك، فقال: "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما " < 7-383 > " قيحا" .

وقال البيهقي: كذا قال "عن سعد"، والأول -وهو عبيد-أصح.

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مَخْلَد، حدثنا أبي أبو عاصم، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزبير عن ابن عَمّ لأبي هريرة أن ماعزًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت فأعرض عنه -قالها أربعا-فلما كان في الخامسة قال: "زنيت"؟ قال: نعم. قال: "وتدري ما الزنا؟" قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا. قال: "ما تريد إلى هذا القول؟" قال: أريد أن تطهرني. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المِيل في المكحلة والرِّشاء في البئر؟". قال: نعم، يا رسول الله. قال: فأمر برجمه فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مَرّ بجيفة حمار فقال: أين فلان وفلان؟ أنـزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" قالا غفر الله لك يا رسول، الله وهل يُؤكل هذا؟" قال: "فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا من، والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" ]إسناده صحيح] .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا واصل -مولى ابن عيينة-حدثني خالد بن عُرْفُطَة، عن طلحة بن نافع، عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين " .

طريق أخرى: قال عبد بن حُميد في مسنده: حدثنا إبراهيم بن الأشعث، حدثنا الفُضيل بن عياض، عن سليمان، عن أبي سفيان -وهو طلحة بن نافع-عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن نفرًا من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين، فلذلك بعثت هذه الريح" وربما قال: "فلذلك هاجت هذه الريح" .

وقال السدي في قوله: ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) : زعم أن سلمان الفارسي كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما، وينال من طعامهما، وأن سلمان لما سار الناس ذات يوم وبقي سلمان نائما، لم يسر معهم، فجعل صاحباه يكلمانه فلم يجداه، فضربا الخِباء فقالا ما يريد سليمان -أو: هذا العبد-شيئا غير هذا: أن يجيء إلى طعام مقدور، وخباء مضروب! فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداما، فانطلق فأتى رسول " < 7-384 > " الله [صلى الله عليه وسلم] ومعه قَدَح له، فقال: يا رسول الله، بعثني أصحابي لِتؤدِمَهم إن كان عندك؟ قال: "ما يصنع أصحابك بالأدْم؟ قد ائتدموا". فرجع سلمان يخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا لا والذي بعثك بالحق، ما أصبنا طعاما منذ نـزلنا. قال: "إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما".

قال: ونـزلت: ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) ، إنه كان نائما .

وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المختارة" من طريق حَبَّان بن هلال، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر ما رجل يخدمهما، فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما، فقالا إن هذا لنؤوم، فأيقظاه، فقالا له: ائت رسول الله فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، ويستأدمانك.

فقال: "إنهما قد ائتدما" فجاءا فقالا يا رسول الله، بأي شيء ائتدمنا؟ فقال: "بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده، إني لأرى لحمه بين ثناياكما". فقالا استغفر لنا يا رسول الله فقال: "مُرَاه فليستغفر لكما" .

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا محمد بن مسلم، عن محمد بن إسحاق، عن عمه موسى بن يَسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من لحم أخيه في الدنيا، قُرِّب له لحمه في الآخرة، فيقال له: كله مَيْتًا كما أكلته حَيًّا. قال: فيأكله ويَكْلَح ويصيح". غريب جدا .

وقوله: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي: فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، ( إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) أي: تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه، واعتمد عليه.

قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك، ويعزم على ألا يعود. وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نـزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذًا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، فتكون تلك بتلك، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا أحمد بن الحجاج، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن سليمان؛ أن إسماعيل بن يحيى المعَافِريّ أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَنِيّ أخبره، عن أبيه، عن النبي " < 7-385 > " صلى الله عليه وسلم قال: "من حمى مؤمنا من منافق يعيبه ، بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم. ومن رمى مؤمنا بشيء يريد شينه، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال". وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله -وهو ابن المبارك-به بنحوه .

وقال أبو داود أيضا: حدثنا إسحاق بن الصباح، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا الليث: حدثني يحيى بن سليم؛ أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول: سمعت جابر بن عبد الله، وأبا طلحة بن سهل الأنصاري يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرىء يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في مواطن يحب فيها نصرته. وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته ، إلا نصره الله في مواطن يحب فيها نصرته". تفرد به أبو داود .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

يقول تعالى مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبا، وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك.

وقيل: المراد بالشعوب بطون العَجَم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل. وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب: "الإنباه" لأبي عمر بن عبد البر، ومن كتاب "القصد والأمم، في معرفة أنساب العرب والعجم". فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، منبها على تساويهم في البشرية: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) أي: ليحصل التعارف بينهم، كلٌ يرجع إلى قبيلته.

وقال مجاهد في قوله: ( لِتَعَارَفُوا ) ، كما يقال: فلان بن فلان من كذا وكذا، أي: من قبيلة كذا وكذا.

وقال سفيان الثوري: كانت حِمْير ينتسبون إلى مَخَاليفها، وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها.

وقد قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد " < 7-386 > " الملك بن عيسى الثقفي، عن يزيد -مولى المنبعث-عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر". ثم قال: غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

وقوله: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبدة، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟" قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهُوا" .

وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان . ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله -وهو ابن عمر العمري-به .

حديث آخر: قال مسلم ، رحمه الله: حدثنا عمرو الناقد، حدثنا كَثِير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنان، عن كَثِير بن هشام، به .

حديث آخر: وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن أبي هلال، عن بكر، عن أبي ذر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "انظر، فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى . تفرد به أحمد .

حديث آخر: وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جَبَلة، حدثنا عبيد بن حنين الطائي، سمعت محمد بن حبيب بن خِرَاش العَصَرِيّ، يحدث عن أبيه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : المسلمون إخوة، لا " < 7-387 > " فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى"

حديث آخر: قال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي، حدثنا الحسن بن الحسين، حدثنا قيس -يعني ابن الربيع-عن شبيب بن غَرْقَدَة ، عن المستظل بن حصين، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم. وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجِعْلان".

ثم قال: لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه .

حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى بن زكريا القطان، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتى نـزل صلى الله عليه وسلم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. إن الله يقول: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )" ثم قال: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".

هكذا رواه عبد بن حميد، عن أبي عاصم الضحاك بن مَخْلَد، عن موسى بن عبيدة، به .

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد، كلكم بنو آدم طَفَّ الصاع لم يملؤه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى، وكفى بالرجل أن يكون بَذِيّا بخيلا فاحشًا".

وقد رواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، عن ابن لَهِيعة، به ولفظه: "الناس لآدم وحواء، طف الصاع لم يَمْلَئُوه، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

" < 7-388 > "

وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا شريك، عن سِمَاك، عن عبد الله بن عَمِيرة زوج درة ابنة أبي لهب، عن درة بنت أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أقرؤهم، وأتقاهم لله عز وجل، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم" .

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا، ولا أعجبه أحد قط، إلا ذو تقى. تفرد به أحمد رحمه الله .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) أي: عليم بكم، خبير بأموركم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله. وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الأحاديث الشريفة، من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين، لقوله: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وذهب الآخرون إلى أدلة أخرى مذكورة في كتب الفقه، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في "كتاب الأحكام" ولله الحمد والمنة. وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلا من بني هاشم يقول: أنا أولى الناس برسول الله. فقال: غيرك أولى به منك، ولك منه نسبه.

قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) " < 7-389 > "

يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) . وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل، عليه السلام، حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص منه.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئًا، فقال سعد: يا رسول الله، أعطيت فلانًا وفلانا ولم تُعط فلانًا شيئًا، وهو مؤمن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو مسلم" حتى أعادها سعد ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أو مسلم" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شيئًا؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم".

أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، به .

فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلم والمؤمن، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام. وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من "صحيح البخاري" ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقًا؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه، فأدبوا في ذلك. وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي، وقتادة، واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري، رحمه الله، ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهرون الإيمان وليسوا كذلك. وقد روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد أنهم قالوا في قوله: ( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) أي: استسلمنا خوف القتل والسباء. قال مجاهد: نـزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نـزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والصحيح الأول؛ أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يحصل لهم بعد، فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا، كما ذكر المنافقون في سورة براءة. وإنما قيل لهؤلاء تأديبًا: ( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي: لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد.

ثم قال: ( وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [شَيْئًا ] ) أي: لا ينقصكم من أجوركم شيئا، كقوله: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور : 21] .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: لمن تاب إليه وأناب.

" < 7-390 > "

وقوله: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ) أي: إنما المؤمنون الكُمَّل ( الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ) أي: لم يشكوا ولا تزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، ( وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه، ( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) أي: في قولهم إذا قالوا: "إنهم مؤمنون"، لا كبعض الأعراب الذين ليس معهم من الدين إلا الكلمة الظاهرة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رِشْدين، حدثني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: [الذين] آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه لله، عز وجل" .

وقوله: ( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ) أي: أتخبرونه بما في ضمائركم، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) أي: لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

ثم قال [تعالى] : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) ، يعني: الأعراب [الذين] يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول، يقول الله ردًا عليهم: ( قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ) ، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه، ( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي: في دعواكم ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟" كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ .

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن قيس، عن أبي عون، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم تقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم". ونـزلت هذه الآية: ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )

" < 7-391 > "

ثم قال: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله، عن سعيد بن جبير، غير هذا الحديث .

ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )

آخر تفسير الحجرات، ولله الحمد والمنة .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alyasser.mam9.com
 
تفسير ابن كثير للقران47سورة الفتح
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير ابن كثير للقران16
» تفسير ابن كثير للقران3
» تفسير ابن كثير للقران
» تفسير ابن كثير للقران15
» تفسير ابن كثير للقران 2

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مملكة الياسر العظمة لعلوم الفلك والروحانيات Astronomy and Spirituality treat all kinds of magic :: الفئة الأولى :: المنتدى الأول-
انتقل الى:  
Place holder for NS4 only
pubacademy.ace.st--!>
pubacademy.ace.st--!>