تفسير سورة الدخان
وهي مكية.
قال الترمذي: حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا زيد بن الحباب، عن عُمَر بن أبي خَثْعَم، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ (حم الدخان) في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك".
ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمَر بن أبي خثعم يضعف. قال البخاري: منكر الحديث .
ثم قال: حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحباب، عن هشام أبي المقدام، عن الحسن ، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ (حم الدخان) في ليلة الجمعة، غفر له".
ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهشام أبو المقدام يضعف، والحسن لم يسمع من أبي هريرة كذا قال أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد .
وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن زيد بن حارثة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صَيَّاد: "إني قد خبأت خبأ فما هو؟" وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الدخان، فقال: هو الدُّخ. فقال: "اخسأ ما شاء الله كان". ثم انصرف .
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (
يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم: إنه أنـزله في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ القدر: 1 ] وكان ذلك في شهر رمضان، كما قال: تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [ البقرة: 185 ] "< 7-246 >" وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك في "سورة البقرة" بما أغنى عن إعادته.
ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان -كما روي عن عكرمة-فقد أبعد النَّجْعَة فإن نص القرآن أنها في رمضان. والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح، عن الليث، عن عقيل عن الزهري: أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له، وقد أخرج اسمه في الموتى" فهو حديث مرسل، ومثله لا يعارض به النصوص.
وقوله: ( إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) أي: معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعًا، لتقوم حجة الله على عباده.
وقوله: ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) أي: في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر، وأبي مالك، ومجاهد، والضحاك، وغير واحد من السلف.
وقوله: ( حكيم ) أي: محكم لا يبدل ولا يغير؛ ولهذا قال: ( أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ) أي: جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه، ( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) أي: إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات، فإن الحاجة كانت ماسة إليه؛ ولهذا قال: ( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) أي: الذي أنـزل هذا القرآن هو رب السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما، ( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) أي: إن كنتم متحققين.
ثم قال: ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) وهذه الآية كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ] الآية [ الأعراف: 158 ] .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون، أي: قد جاءهم اليقين ، وهم يشكون فيه، ويمترون ولا يصدقون به، ثم قال متوعدا لهم ومتهددًا: ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ).
قال سليمان بن مِهْرَان الأعمش، عن أبي الضُّحَى مسلم بن صُبَيْح ، عن مسروق قال: دخلنا "< 7-247 >" المسجد -يعني مسجد الكوفة-عند أبواب كندة، فإذا رجل يقص على أصحابه: ( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام. قال: فأتينا ابن مسعود فذكرنا ذلك له، وكان مضطجعًا ففزع فقعد، وقال إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ ص: 86 ]، إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: "الله أعلم" سأحدثكم عن ذلك، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان -وفي رواية: فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد-[قال] قال الله تعالى: ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر، فإنها قد هلكت. فاستسقى لهم فَسُقُوا فأنـزل الله: ( إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) قال: ابن مسعود: فيكشف العذاب عنهم يوم القيامة، فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنـزل الله: ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) ، قال: يعني يوم بدر.
قال ابن مسعود: فقد مضى خمسة: الدخان، والروم، والقمر، والبطشة، واللِّزام. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة، عن الأعمش، به وقد وافق ابن مسعود على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف كمجاهد، وأبي العالية، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله: ( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) قال: كان يوم فتح مكة.
وهذا القول غريب جدًّا بل منكر.
وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة، كما تقدم من حديث أبي سَرِيحة حذيفة بن أسيد الغفاري، رضي الله عنه، قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس "< 7-248 >" -أو: تحشر الناس-: تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن الصياد: "إني خبأت لك خَبْأ" قال: هو الدُّخ. فقال له: "اخسأ فلن تعدو قدرك" قال: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) .
وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب، وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان، وهم يُقَرطمون العبارة؛ ولهذا قال: "هو الدُّخ" يعني: الدخان. فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية، فقال له: "اخسأ فلن تعدو قدرك".
ثم قال ابن جرير: وحدثني عصام بن رَوَّاد بن الجراح، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن سعيد الثوري، حدثنا منصور بن المعتمر، عن رِبْعِي بن حِرَاش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الآيات الدجال، ونـزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا، والدخان-قال حذيفة: يا رسول الله، وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) -يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يومًا وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فيكون بمنـزلة السكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" .
قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلا وإنما لم أشهد له بالصحة؛ لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث: هل سمعه من سفيان؟ فقال له: لا قال: فقلت: أقرأته عليه؟ قال: لا قال: فقلت له: فقرئ عليه وأنت حاضر فأقر به؟ فقال: لا فقلت له: فمن أين جئت به؟ فقال: جاءني به قوم فعرضوه علي، وقالوا لي: اسمعه منا. فقرءوه عليَّ ثم ذهبوا به، فحدثوا به عني، أو كما قال .
وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث هاهنا، فإنه موضوع بهذا السند، وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير، وفيه منكرات كثيرة جدًا، ولا سيما في أول سورة "بني إسرائيل" في ذكر المسجد الأقصى، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا خليل، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه".
"< 7-249 >"
ورواه سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري موقوفًا. ورواه عوف، عن الحسن قوله.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثني محمد بن عوف، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضَمْضَم بن زُرعَة، عن شُريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال".
ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد، عن محمد بن إسماعيل بن عياش، به وهذا
إسناد جيد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه، قال: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفذ.
وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن ابن عمر قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ، أي: المشوي على الرَّضف.
ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة عن ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس، رضي الله عنهما، ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه، عن ابن عمر، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي يزيد، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس فذكره. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن. وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين أجمعين، مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردناها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن.
قال الله تعالى: ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) أي: بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود، رضي الله عنه: إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله: ( يَغْشَى النَّاسَ ) أي: يتغشاهم ويَعُمهم ، ولو كان أمرا خياليًّا يخص أهل مكة المشركين لما "< 7-250 >" قيل فيه: ( يَغْشَى النَّاسَ )
وقوله: ( هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا، كقوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [ الطور: 13 ، 14]، أو يقول بعضهم لبعض ذلك.
وقوله: ( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ الأنعام: 27 ]. وكذا قوله: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ إبراهيم: 44 ]، وهكذا قال هاهنا: ( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ )
يقول: كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون. وهذا كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [ الفجر: 23 ، 24]، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [ سبأ: 51 -54 ] .
وقوله: ( إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه يقوله تعالى: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ المؤمنون: 75 ]، وكقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ الأنعام: 28] .
والثاني: أن يكون المراد: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم، كقوله تعالى: إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ يونس: 98 ]، ولم يكن العذاب باشرهم، واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه [ووصوله] عليهم، ولا يلزم أيضًا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخبارًا عن شعيب أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا [ الأعراف: 88 ، 89 ]، وشعيب [عليه السلام] لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم.
وقال قتادة: ( إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) إلى عذاب الله.
"< 7-251 >"
وقوله تعالى: ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضًا عن ابن عباس [وجماعة] من رواية العوفي، عنه. وعن أبي بن كعب وجماعة، وهو محتمل.
والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضًا.
قال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة .
وهذا إسناد صحيح عنه، وبه يقول الحسن البصري، وعكرمة في أصح الروايتين ، عنه.
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
يقول تعالى: ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر، ( وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) يعني: موسى كليمه، عليه السلام،
( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ) ، كقوله: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [ طه: 47 ] .
وقوله: ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) أي: مأمون على ما أبلغكموه.