أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) .
ولهذا قالوا: ( أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) ؟ قال الله تعالى رادًا عليهم: ( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق البار الراشد الذي جاء بالحق، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء ، ( فِي الْعَذَابِ ) أي: [في] الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله، ( وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) من الحق في الدنيا.
ثم قال منبهًا لهم على قدرته في خلق السموات والأرض، فقال: ( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي: حيثما توجهوا وذهبوا فالسماء مظلة مُظلَّلة عليهم، والأرض تحتهم، كما قال: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:47، 48].
قال عبد بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) ؟ قال: إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك، أو من بين يديك أو من خلفك، رأيت السماء والأرض.
وقوله: ( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) أي: لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا.
ثم قال: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) قال مَعْمَر، عن قتادة: ( مُنِيبٍ ) : تائب.
وقال سفيان عن قتادة: المنيب: المقبل إلى الله عز وجل.
أي: إن في النظر إلى خلق السماء والأرض لدلالة لكل عبد فَطِن لبيب رَجَّاع إلى الله، على قدرة الله على بعث الأجساد ووقوع المعاد؛ لأن مَنْ قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها، إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام، كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى [يس: 81]، وقال: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: 57].
" < 6-497 > "
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) .
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود، صلوات الله وسلامه عليه، مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوي العَدَد والعُدَد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات، الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات، والغاديات والرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته ، ثم قال " لقد أوتي هذا مِزْمَارًا من مزامير آل داود".
وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صَنج ولا بَرْبَط ولا وَتَر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه.
ومعنى قوله: ( أَوِّبِي ) أي: سبحي. قاله ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد.
وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سَبّحي بلسان الحبشة. وفي هذا نظر، فإن التأويب في اللغة هو الترجيع، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.
وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه "الجُمل" في باب النداء منه: ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) أي: سيري معه بالنهار كله، والتأويب: سير النهار كله، والإسآد : سير الليل كله. وهذا لفظه، وهو غريب جدًا لم أجده لغيره، وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة، لكنه بعيد في معنى الآية هاهنا. والصواب أن المعنى في قوله تعالى: ( أَوِّبِي مَعَهُ ) أي: رَجّعي معه مُسَبّحة معه، كما تقدم، والله أعلم.
وقوله: ( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) : قال الحسن البصري، وقتادة، والأعمش وغيرهم: كان لا يحتاج أن يُدخلَه نارًا ولا يضربه بمطرقة، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط؛ ولهذا قال: ( أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ) وهي: الدروع. قال قتادة: وهو أول من عملها من الخلق، وإنما كانت قبل ذلك صفائح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا ابن سَمَاعة، حدثنا ابن ضَمْرَة ، عن ابن شَوْذَب قال: كان داود، عليه السلام، يرفع في كل يوم درعًا فيبيعها بستة آلاف درهم: ألفين له ولأهله، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحُوّاري.
" < 6-498 > "
( وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) : هذا إرشاد من الله لنبيه داود، عليه السلام، في تعليمه صنعة الدروع.
قال مجاهد في قوله: ( وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) : لا تُدِقّ المسمار فَيقلَق في الحلقة، ولا تُغَلّظه فيفصمها، واجعله بقدر.
وقال الحكم بن عُتيبة : لا تُغَلظه فيفصم، ولا تُدِقّه فيقلَق . وهكذا روي عن قتادة، وغير واحد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: السرد: حَلَق الحديد. وقال بعضهم: يقال: درع مسرودة: إذا كانت مسمورة الحلق، واستشهد بقول الشاعر:
وَعَليهمــا مَسْــرُودَتَان قَضَاهُمــا
دَاودُ أو صنـــعَ السَّــوابغ تُبّــعُ
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود، عليه والسلام، من طريق إسحاق بن بشر -وفيه كلام-عن أبي إلياس، عن وهب بن مُنَبه ما مضمونه: أن داود، عليه السلام، كان يخرج متنكرًا، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته، فلا يسأل أحدًا إلا أثنى عليه خيرًا في عبادته وسيرته ومعدلته، صلوات الله وسلامه عليه. قال وهب: حتى بعث الله مَلَكًا في صورة رجل، فلقيه داود فسأله كما كان يسأل غيره، فقال: هو خير الناس لنفسه ولأمته، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا قال: ما هي؟ قال: يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين، يعني: بيت المال، فعند ذلك نصب داود، عليه السلام، إلى ربه في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله، فألان له الحديد، وعلمه صنعة الدروع، فعمل الدرع ، وهو أول مَنْ عملها، فقال الله: ( أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) يعني: مسامير الحلق، قال: وكان يعمل الدرع ، فإذا ارتفع من عمله درع باعها، فتصدق بثلثها، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها. وقال: إن الله أعطى داود شيئًا لم يعطه غيره من حسن الصوت، إنه كان إذا قرأ الزبور تسمع الوحش حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته. وكان شديد الاجتهاد، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير، وكأن قد أعطي سبعين مزمارًا في حلقه.
وقوله: ( وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) أي: في الذي أعطاكم الله من النعم، ( إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) أي: مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى علي من ذلك شيء.
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
" < 6-499 > " لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود، عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان ، من تسخير الريح له تحمل بساطه، غدوها شهر ورواحها شهر.
قال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق فينـزل بإصطخر يتغذّى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.
وقوله: ( وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد: القطر: النحاس. قال قتادة: وكانت باليمن، فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان، عليه السلام.
قال السدي: وإنما أسيلت له ثلاثة أيام.
وقوله: ( وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) أي: وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن الله، أي: بقدره ، وتسخيره لهم بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك. ( وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ) أي: ومَنْ يعدل ويخرج منهم عن الطاعة ( نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ) وهو الحريق.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا فقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نُفَير ، عن أبي ثعلبة الخُشَنيّ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون". رفعه غريب جدًا.
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا حَرْمَلة، حدثنا ابن وهب، أخبرني بكر بن مُضَر، عن محمد، عن ابن أنعم أنه قال: الجن ثلاثة: صنف لهم الثواب وعليهم العقاب، وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض، وصنف حيات وكلاب.
قال بكر بن مضر: ولا أعلم إلا أنه قال: حدثني أن الإنس ثلاثة : صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة. وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلا. وصنف في صُوَر الناس على قلوب الشياطين. " < 6-500 > "
وقال أيضا : حدثنا أبي: حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق حدثنا سلمة -يعني ابن الفضل-عن إسماعيل، عن الحسن قال: الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومَنْ كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.
وقوله: ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ) : أما المحاريب فهي البناء الحسن، وهو أشرف شيء في المسكن وصدره.
وقال مجاهد: المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك: هي المساجد. وقال قتادة: هي المساجد والقصور، وقال ابن زيد: هي المساكن. وأما التماثيل فقال عطية العوفي، والضحاك والسدي: التماثيل: الصور. قال مجاهد: وكانت من نحاس. وقال قتادة: من طين وزجاج.
وقوله: ( وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ) الجواب: جمع جابية، وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء، كما قال الأعشى ميمون بن قيس:
تَــرُوحُ عَــلَى آل المَحَـلَّق جَفْنَـةٌ
كَجَابِيَــة الشَّــيخ العِـراقي تَفْهَـق
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( كَالْجَوَابِ ) أي: كالجوبة من الأرض.
وقال العوفي، عنه: كالحياض. وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك وغيرهم.
والقدور الراسيات: أي الثابتات، في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها لعظمها. كذا قال مجاهد، والضحاك، وغيرهما.
وقال عكرمة: أثافيها منها.
وقوله: ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ) أي: وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين .
وشكرًا: مصدر من غير الفعل، أو أنه مفعول له، وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية، كما قال:
أفَــادَتْكُمُ النّعْمَـاء منِّـــي ثَــلاثةً:
يـدِي, ولَسَـاني, وَالضَّمـير المُحَجَّبَـا
قال أبو عبد الرحمن الحُبلي : الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر. وأفضل الشكر الحمد. رواه ابن جرير.
وروى هو وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القُرَظي قال: الشكر تقوى الله والعمل الصالح.
" < 6-501 > "
وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل، وقد كان آل داود، عليه السلام، كذلك قائمين بشكر الله قولا وعملا.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي بكر، حدثنا جعفر -يعني: ابن سليمان-عن ثابت البُنَاني قال: كان داود، عليه السلام، قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فغمرتهم هذه الآية: ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) .
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما. ولا يَفر إذا لاقى".
وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سُنيْد بن داود، حدثنا يوسف بن محمد بن المُنْكَدِر، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالت أمّ سليمان بن داود لسليمان: يا بني، لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرًا يوم القيامة".
وروى ابن أبي حاتم عن داود، عليه السلام، هاهنا أثرا غريبا مطولا جدا، وقال أيضًا:
حدثنا أبي، حدثنا عمران بن موسى، حدثنا أبو يزيد فيض بن إسحاق الرقي قال: قال فضيل في قوله تعالى: ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ) . فقال داود: يا رب، كيف أشكرك، والشكر نعمة منك؟ قال: "الآن شكرتني حين علمت أن النعمة مني".
وقوله: ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) إخبار عن الواقع.
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) .
يذكر تعالى كيفية موت سليمان، عليه السلام، وكيف عَمَّى الله موته على الجانّ المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئًا على عصاه -وهي مِنْسَأته-كما قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة وغير واحد -مدة طويلة نحوا من سنة، فلما أكلتها دابةُ الأرض، وهي الأرضة، ضعفت وسقط إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة-تبينت الجن والإنس أيضًا أن الجن لا يعلمون الغيب، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك.
" < 6-502 > "
قد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب، وفي صحته نظر، قال ابن جرير:
حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عطاء، عن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان سليمان نبي الله، عليه السلام، إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا. فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غُرِسَتْ، وإن كانت لدواء كُتِبَتْ. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب. قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان: اللهم، عَمّ على الجن موتتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. فنحتها عصًا، فتوكأ عليها حولا ميتا، والجن تعمل. فأكلتها الأرضة، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا [حولا] في العذاب المهين".
قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال: "فشكرت الجن الأرضة ، فكانت تأتيها بالماء" .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث إبراهيم بن طَهْمان، به. وفي رفعه غرابة ونكارة، والأقرب أن يكون موقوفًا، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات، وفي بعض حديثه نكارة.
وقال السُّدِّي، في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان سليمان يتحرر في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي توفي فيها، وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها فيسألها، فيقول: ما اسمك؟ فتقول: اسمي كذا وكذا. فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت نبْتَ دواء قالت: نَبَتُّ دواء لكذا وكذا. فيجعلها كذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها: الخرّوبة، فسألها: ما اسمك؟ فقالت: أنا الخروبة. قال: ولأي شيء نَبَتِّ؟ قالت: نبت لخراب هذا المسجد. قال سليمان: ما كان الله ليُخَرِّبه وأنا حي؟ أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس. فنـزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه، فمات ولم تعلم به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له، يخافون أن يخرج فيعاقبهم. وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كُوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جلدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق. فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق. ونظر إلى سليمان، عليه السلام، قد سقط ميتا. فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات. ففتحوا عنه " < 6-503 > " فأخرجوه. وَوَجدوا منسأته -وهي: العصا بلسان الحبشة-قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات؟ فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة. وهي في قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم علموا الغيب، لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب يعملون له سنة، وذلك قول الله عز وجل: ( مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) . يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين -قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت-قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب؟ فهو ما تأتيها به الشياطين، شكرًا لها.
وهذا الأثر -والله أعلم-إنما هو مما تُلُقِّي من علماء أهل الكتاب، وهي وَقْفٌ، لا يصدق منها إلا ما وافق الحق، ولا يُكذب منها إلا ما خالف الحق، والباقي لا يصدق ولا يكذب .
وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) قال: قال سليمان عليه السلام لملك الموت: إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني. فأتاه فقال: يا سليمان، قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير، وليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال: فدخل عليه ملك الموت، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت. قال: والجن يعملون بين يديه وينظرون إليه، يحسبون أنه حي. قال: فبعث الله، عز وجل، دابة الأرض. قال: والدابة تأكل العيدان -يقال لها: القادح-فدخلت فيها فأكلتْها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت، وثقل عليها فخر ميتًا، فلما رأت ذلك الجن انفضوا وذهبوا. قال: فذلك قوله: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهِ). قال أصبغ: بلغني عن غيره أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر . وقد ذكر غير واحد من السلف نحوًا من هذا، والله أعلم.