: جمع الأدلة الشرعية من الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة التي تثبت هذا الاعتقاد، وموضحاً ذلك بأقوال أئمة أهل العلم من المفسرين وعلماء الحديث وغيرهم، وإضافة الأدلة الحسية المشاهدة إلى ذلك.
وقد روى العلماء الثقات المشهورون حوادث كثيرة تثبت دخول الجن بدن الإنسان، وأنهم شاهدوا ذلك بما لا يدع مجالاً للإنكار.
ثالثاً: ذكر أقوال المنكرين وأدلتهم، وإبطالها من عدة وجوه. مبيناً تهافتها، وبالتالي تهافت الاعتقاد الذي بنوه على ذلك، وهو إنكار دخول الجن بدن الإنسان وصرعه.
أولاً: بيان أن دخول الجن بدن الإنسان وصرعه له هو مذهب أهل السنة والجماعة:
…إن دخول الجن بدن الإنسان وصرعه له هو معتقد أهل السنة والجماعة، وقد بيّن ذلك جمع من العلماء والأئمة. وأذكر هنا طائفة من أقوالهم التي توضح ذلك.
1. يقول أبو الحسن الأشعري (توفي سنة 324هـ): "وإن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه(1) خلافاً لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس( سورة البقرة: 275(2).
2. يقول الإمام أحمد بن محمد بن منصور ابن المنيِّر (توفي سنة 683هـ): "واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها، واقعة كما أخبر الشرع عنها، وإنما القدرية خصماء العلانية، فلا جرم ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم، من ذلك: السحر وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن".(3)
3. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (توفي سنة 728هـ): "ودخول الجن في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة.. وليس في أئمة الإسلام من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره"(4). وتحدث رحمه الله عن صرع الجن للإنسان ثم قال: "وقد اتفق عليه أئمة الإسلام كما اتفقوا على وجود الجن"(5).
4. يقول العلامة محي الدين شيخ زاد (توفي سنة 951هـ): "إن أهل السنة يعتقدون بأن الشيطان يمس الإنسان ويتخبطه ويسبب له الجنون، وأن له تأثيراً في بعض أجسام الناس)(6).
5. يقول العلامة ابن حجر الهيثمي (توفي سنة 974هـ): "فدخوله (أي الجني) في بدن الإنسان هو مذهب أهل السنة والجماعة"(7).
6. تحدثَّ العلامة السيد محمود أفندي الألوسي (توفي سنة 1270هـ) عن المس الشيطاني للإنسان مستشهداً بقوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس( سورة البقرة: 275(
ثم قال: "واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقة واقعة، كما أخبر الشرع عنها، والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطاً طويلاً لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم، وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم، فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون"(9).
7. وذكر الأستاذ القاسمي (توفي سنة 1332هـ) في تفسيره نفس أقوال الإمام ابن المنير(10).
8. يقول الشيخ عبد العزيز بن باز (مفتي السعودية السابق): "وقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على جواز دخول الجني بالإنس وصرعه إياه"(11).
ثانياً: الأدلة الشرعية على دخول الجني بدن الإنسان وصرعه إياه:
أ-الأدلة من القرآن الكريم:
يقول الله عز وجل: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس..( سورة البقرة:275.
اعتمد أئمة علماء أهل السنة والجماعة على هذه الآية الكريمة في إثبات صرع الشيطان للإنسان وقدرته على دخول بدنه، وبهذه الآية ردوا على المعتزلة المنكرين لذلك. وأذكر هنا طائفة من أقوال أئمة التفسير وغيرهم التي تبين وجه استدلالهم بهذه الآية الكريمة.
1. يقول الإمام الطبري (توفي سنة 310هـ) في تفسيره: "فقال جلَّ ثناؤه للذين يأكلون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني بذلك: يتخبطه فيصرعه من المس، يعني من الجنون، وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل"(12).
2. يقول أبو إسحاق الزجاج (توفي سنة 311هـ): "المعنى: الذين يأكلون الربا لا يقومون في الآخرة إلا كما يقوم المجنون من حالة جنونه، يقال بفلان مس، وهو أَلمْسَ وأَوْلقَ: إذا كان به جنون"(13).
3. يقول الماوردي (توفي سنة 450هـ): (لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس(، يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس، يعني الجنون"(14).
4. يقول البغوي (توفي سنة 516هـ): "لا يقومون: يعني يوم القيامة من قبورهم (إلا كما يقوم الذي يتخبطه( أي يصرعه الشيطان، أصل الخبط: الضرب والوطء، وهو ضرب على غير استواء، (من المس( أي الجنون، يقال مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً، ومعناه آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع"(15).
5. يقول عبد الرحمن بن الجوزي (توفي سنة 579هـ): "قال ابن قتيبة: لا يقومون أي يوم البعث من القبور، والمس: الجنون، يقال رجل ممسوس: أي مجنون"(16).
6. يقول القرطبي (توفي سنة 671هـ): "وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مس"(17).
7. يقول النسفي (توفي سنة 701هـ): "لا يقومون إذا بعثوا من قبورهم (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان( أي المصروع.. والخبط: الضرب على غير استواء، كخبط الغشواء،(من المس( من الجنون.. أي لا يقومون من المس الذي كان بهم إلا كما يقوم المصروع"(18).
8. يقول أبو حيان الأندلسي (توفي سنة 754هـ): "وظاهر الآية أن الشيطان يتخبط الإنسان، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان، بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس، وليس في العقل ما يمنع ذلك، وأصله من المس باليد، كان الشيطان يمس الإنسان فيجنه، ويسمى الجنون مساً، كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخبله، فسمي الجنون خبطة.. وهو على سبيل التأكيد ورفع ما يحتمله من المجاز.."(19).
9. يقول بن جزي الكلبي (توفي سنة 741هـ): "أجمع المفسرون أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون، ويتخبطه يتفعله من قولك: خبط يخبط، والمس: الجنون"(20). وما قاله حق، فلمْ يخالف في ذلك أحد من المفسرين.
10. يقول ابن كثير (توفي سنة 774هـ): "أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً"(21).
11. يقول الألوسي (توفي سنة 1270هـ): "الذين يأكلون الربا لا يقومون يوم القيامة إلا قياماً كقيام المتخبط المصروع في الدنيا، (من المس( أي: الجنون، يقال مُسَّ الرجل فهو ممسوس إذا جُنَّ، وأصله اللمس باليد، وسُمي به لأن الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسُد، ويحدث الجنون، والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحياناً، وله عند أهله الحاذقين إمارات يعرفونه بها، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة بالتصرف، فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلاً"(22).
12. يقول محمد الطاهر بن عاشور (توفي سنة 1284هـ) :"والذي يتخبطه الشيطان هو المجنون الذي أصابه الصرع، فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام.. وإنما احتيج إلى زيادة قوله (من المس( ليظهر المراد من تخبط الشيطان، فلا يُظن أنه تخبط مجازي بمعنى الوسوسة"(23).
13. يقول سيد قطب (توفي سنة 1965هـ): "إن صورة الممسوس المصروع صورة معروفة معهودة عند الناس، والنص القرآني يستحضرها لتؤدي دورها الإيجابي في إفزاع حس الإنسان المرابي واستجاشة مشاعره"(24).
تلك أقوال بعض مفسري أهل السنة والجماعة التي تبين بجلاء أن القرآن الكريم قد أثبت ظاهرة المس الشيطاني للإنسان وصرعه له، وتسببه في الجنون. ولقد فسَّر علماء أهل السنة والجماعة الآية الكريمة على ظاهرها دون تأويل يخرجها عما تقتضيه معاني لغة العرب، ولم أر مخالفاً لذلك إلا المعتزلة أو من مسته لوثة اعتزالية، وخاصة الذين نقلوا أقوال الزمخشري المعتزلي صاحب تفسير الكشاف دون نقد أو تمحيص(25).
ب-الأدلة من السنة النبوية المطهرة:
اعتمد أهل السنة والجماعة على السنة النبوية في إثبات دخول الجن في بدن الإنسان وصرعه له، والدارس لمصنفاتهم في العقيدة والتفسير والحديث وغيرها يجد كثيراً من الأحاديث التي يسوقونها للاستدلال على ما ذهبوا إليه، وأذكر هنا طائفة من الأحاديث الصحيحة التي تدل صراحة على صحة هذا الاعتقاد الذي ذهب إليه أهل السنة والجماعة. ومن ذلك:
1- ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن صفية بنت حيي زوج النبي( قالت: "كان النبي ( معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي ( أسرعا، فقال النبي (: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: "سبحان الله يا رسول الله! فقال(: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو شيئاً"(26).
…استدل بهذا الحديث على قدرة الجن سلوك بدن الإنسان جماعة من علماء وأئمة أهل السنة والجماعة منهم: والقرطبي في تفسيره(27)، وابن تيمية في فتاويه(28)،وابن حجر الهيثمي وردَّ به على المعتزلة منكري ذلك(29)، والبقاعي في تفسيره(30)، وابن حجر العسقلاني في بذل الماعون(31)، والعلامة موفق الدين بن عبد اللطيف البغدادي(32)، والقاسمي في تفسيره(33)، وحكى النووي أن بعض علماء الشافعية استدلوا بالحديث على أن الله جعل للشيطان قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان مجاري دمه